السبت، 11 يناير 2025

في مديح الرياضيات (4)

 

فلسفة ورياضيات أو قصة زوج قديم (2) 

بعد الإغريق، ذكرتَ أن الفلاسفة الكلاسيكيين أبدوا دائمًا اهتمامًا عميقًا بالرياضيات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان لهذا الاهتمام تأثير حقيقي على أنظمتهم الفكرية؟

من المثير للاهتمام أن نتأمل الأسباب التي قدمها الفلاسفة أنفسهم لشرح أهمية الرياضيات.

لنأخذ مثالًا على ذلك، مؤسس الفلسفة الحديثة، ديكارت. وكما ذكرت، كان ديكارت عالم رياضيات بارعًا. ما استخلصه ديكارت من الرياضيات وأدخله في مشروعه الفلسفي واضح للغاية: إنه النموذج المثالي للبرهان. بالنسبة لديكارت، يجب أن يتخذ النص الفلسفي شكل "سلاسل طويلة من الأسباب"، وهو أسلوب يميز الرياضيات في جوهرها. لكن يمكننا أيضًا القول إن ديكارت استخدم منهج البرهان بالخلف . فعندما أراد إثبات وجود شيء ما، كالعالم الخارجي مثلًا، لم يلجأ إلى البرهان المباشر. بل اختلق فكرة الشك "المطلق"، أو ما سماه الشك "الزائدي"، وهو شك يتجاوز حدود التجربة والعقل إلى درجة إنكار كل حقيقة وكل تجربة. لكنه لاحظ، في المقابل، أن فعل الشك نفسه لا يمكن التشكيك فيه. وهنا ظهر الـ Cogito الشهير، الذي أسس "نقطة" حقيقة (الـ  "أنا موجود")  ، عن طريق نفي النفي المطلق المتمثّل في الشك. علاوة على ذلك، لإثبات وجود الله، قدم عدة براهين، وهذه المرة كانت براهينه ذات طبيعة بنّاءة. مثلًا، انطلاقًا من كونه يمتلك فكرة عن اللانهاية رغم كونه كائنًا محدودًا، استنتج بالضرورة وجود كائن غير محدود (الله) هو مصدر هذه الفكرة. صحيح أن تفاصيل هذا البرهان معقدة، لكنها أقرب إلى النهج الرياضي في دقتها ومنهجيتها. بذلك، نجد أن الرياضيات، بالنسبة لديكارت، كانت حاضرة في كل أبعاد فلسفته، كنموذج مثالي للتفكير العقلاني.

خذ مثلا سبينوزا، دائما في القرن السابع عشر. يبدأ  الأخلاق (l’Ethique) بالقول أنه لو لم تكن هناك رياضيات لظل الإنسان جاهلا، خاصةً لأنه كان سيواصل تفسير كل شيء من خلال "العلل الغائية" «، الأساطير،و تدخل قوى خارقة للطبيعة. بذلك يدرج سبينوزا أخلاقه بنفسه في فكرة أنها، إلى حد ما تُعتبر، نتيجة محتملة لوجود الرياضيات. إن دور الرياضيات الرئيسي، بالنسبة له، هو أنها فندت مصداقية التفسيرات المعتمدة على العلل الغائية، وأنها أزالت الغائية من الحقل الفلسفي، والتي كانت لما تزل مهمًة جدًا في التقليد الأرسطي، واكتفت بالتسلسلات الاستنتاجية. يميز سبينوزا، كما يفعل أفلاطون، ثلاثة أنواع من المعرفة: الأول هو مزيج من التمثل الحساس والخيال، انه ما يمكن أن نسميه الجهل العادي. الثاني هو المعرفة المفاهيمية المنظمة، البرهان نقطة بنقطة، ونموذج هذا النوع هو الرياضيات. الثالث هو الاتصال الحدسي بالله، الذي هو اسم الطبيعة، أو الكلية، وهذا النوع هو المعرفة الفلسفية الحقة. لكن سبينوزا يؤكد أنه بدون الوصول إلى النوع الثاني، لا يمكن حتى مجرد التفكير في الوصول إلى الثالث. وفيما تبقى، قام بترتيب كتابه تمامًا مثلما كان تُرتب الأطروحات الرياضية في عصره، على نموذج عناصر إقليدس: تعاريف، مسلمات، افتراضات ... وهكذا كانت الفلسفة تٌعرض  في نمط هندسي more geometrico. هذا يدل على العلاقة الحميمة بين الفلسفة والرياضيات.

ماذا قال كانط عن الرياضيات قرنا بعد ذلك ؟ في مقدمة نقده للعقل الخالص، يكرر ضرورة الرياضيات المطلقة حتى توجد الفلسفة، ولا سيما الفلسفة النقدية التي ينوي تأسيسها ، في خضم التنوير. السؤال الحاسم الذي يطرحه، "من أين تأتي الميزة العالمية للعلم؟" "، لم يكن له أن يُطرح لو لم يكن هناك علم، و لو لم تكن هناك رياضيات لما كان هناك كذلك علم طبيعة كما برهن على ذلك نيوتن. ويضيف أيضًا، وهذا ما يؤثر فيّ دائمًا، أن اختراع الرياضيات هو نتيجة "عبقرية رجل واحد"، وهو طالس في رأيه. كانط يريد أيضًا أن يُبيّن أن ظهور الرياضيات لم يكن ضرورة تاريخية، بل هو  حالة ابتكارية طارئة. لم يتم ابتكار الرياضيات كي يتسنى لكانط  طرح السؤال الحاسم عن أصل عالمية العقلانية، بل تم ابتكارها صدفة، يوما ما، عن طريق عبقرية رجل واحد. كما لو أنها كانت جمالية عرضية. لكن هذه الحالة العرضية تخلق إمكانية السؤال النقدي، الذي يحدد المشروع الفلسفي.

من الضروري أيضًا إضافة نقطة، والتي تتوقع استخدام المفهومين الممكنين للرياضيات، المفهومين المتنازعين منذ قرون واللذين سنتحدث عنهما لاحقا: المفهوم الواقعي (أو الأفلاطوني)، الذي يقول أن هدف الرياضيات موجود خارجنا، والصوري، الذي يقول أن الرياضيات هي ابتكار خالص، ولا سيما ابتكار لغة رسمية خاصة. مفهوم الرياضيات لدى كانط، هو مفهوم استباقي « apriorique »، وهو ما يعني أن تنظيم الفكر الرياضي لا يأتي من التجربة الملموسة، ولكنه سابق لها،  أي أنه موجود مُسبقا، قبلي(a priori) وليس مؤخرا/بعدي (a posteriori) نسبة إلى التجربة. باختصار، يؤكد كانط أن ما هو على المحك في العلوم الرسمية - وأيضًا ، ولكن هذا سؤال آخر، في العلوم التجريبية - هو مسألة تنظيم ذاتي للمعرفة الإنسانية، وما يسميه الموضوع المتعالي. إذا كانت العقلانية عالمية، فإنها ليست كذلك لدى كانط لكونها تمس واقعا، بل هي عالمية لأنها تشير إلى بنية عالمية للذاتية المعرفية نفسها. إذا كان الجميع متفق على البرهان الرياضي، فذلك ليس لأنه يشير إلى شيء ما  يمكنه أن يمس شيئا في ذاته أو إلى واقع العالم، بل لأن البنية الفكرية للإنسان تخضع إلى نموذج فريد من نوعه، بحيث ما سيكون برهانا بالنسبة لشخص ما سيكون برهانا  بالنسبة للآخر.

أعتقد أن الأمر يتعلق هنا بنسخة معقدة من الأطروحة الصورية. لاحقا، بالنسبة إلى فيتغنشتاين، سوف لن تكون الرياضيات سوى لعبة لغوية ضمن لعبات أخرى، والتي يجب ألا تكون مطلقة. لم يكن كانط يقول بذلك، لأن الرياضيات كانت بالنسبة له عالمية حقًا ولا يمكن مجادلتها لأجل أفهام كأفهامنا. ومع ذلك، فهي صورية على كل حال، صورية متعالية: ليست الرياضيات عالمية لأنها تُخضع قيد التفكير بُنى صورية  للوجود كوجود، ولكن لأنها لغة مشفرة بنفس الطريقة  بالنسبة للجميع.

ومع ذلك، فبالنسبة لكانط كما بالنسبة إلى ديكارت أو سبينوزا، فإن الرياضيات، بمجرد أن ابتكرها طالس، فتحت طريق العلم اللامتناهي، ولو لم تكن موجودة – ليكن في علمنا، أن الإنسان كان موجودا لعشرات الآلاف من السنوات عندما اخترع الإغريق الهندسة والحساب البرهانيين -، لم يكن بالمقدور التعبير عن السؤال الفلسفي (من قال بوجود أحكام صحيحة عالميا؟) أو انه كان سيبقى دون إجابة.

 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

بحث في المدونة