الرجل ذو الأسنان المثرمة الذي لا ينتظر المديح و ينسى آخر سيجارة في العلبة كلما غادر المكان، يحدق في كوبه الفارغ وكأنما يفكر في شيء عميق. رفع رأسه ولمحني قاصدا طاولته في المقهى العتيق، رحّب بي كعادته، جلست فبادرني بقوله:
"هل
تعلم، يا صديقي، أن الحياة كلها قد تكون مجرد وهم؟ نحن نعيش في عالم مبني على
أشياء صغيرة جدًا، لدرجة أننا لا نراها أبدًا. هل فكرت في ذلك؟"
أجبته، وعيني على ورقة كانت مبسوطة على الطاولة:
"أعتقد أنني أفهم... لكن ماذا تعني بالأشياء
الصغيرة؟"
ابتسم الرجل، وأخذ نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم
تابع حديثه:
"أفكر في الأشياء التي لا يمكننا رؤيتها،
ولكنها تشكل كل شيء من حولنا. كما لو كان لدينا عالم مليء بالمونادات، كائنات غير
مرئية تدير كل شيء، من دون أن نلاحظها. لو أنها تحطمت، سينهار كل شيء. العالم كله
قد ينهار في لحظة، وعقولنا قد تغرق في فوضى لا نتمكن من فهمها."
قلت متعجبا: مونادات !!!!! من أين تأتي
بهذه التسميات؟؟؟ وما هي هذه المونادات؟
ابتسم، بل قل ضحك ضحكة سمعها النادل، ثم أخذ نفسًا
من سيجارته وقال: المونادات هي فكرة فلسفية قديمة، طرحها الفيلسوف الألماني
ليبنيز.. أظنك قد سمعت به... تعني الكائنات الفردية الصغيرة التي تشكل الأساس لكل
شيء في الكون. كل موناد هي نوع من الكائنات الحية غير المرئية، لا تتفاعل مع بعضها
بشكل مباشر، لكن كل واحدة تحمل بداخلها كل خصائص الكون من وجهة نظرها. إنها
كالكواكب الصغيرة التي تدير واقعنا، ولكننا لا نراها أو نلمسها. الفكرة هي أن هذا
النظام المعقد يمكن أن ينهار إذا اختلت هذه المونادات أو إذا تحطمت، مما يؤدي إلى فوضى
في كل شيء حولنا. فكرة غريبة أليس كذلك؟"
ليست غريبة فحسب..بل
مزعجة. إذن، حسب ما فهمته من كلامك، أنت تقصد أن هذا العالم لا يمكن أن يظل
ثابتًا إذا غابت هذه الأشياء الصغيرة... هذه المونادات كما قلت؟
أجاب بنبرة جدية:
"نعم، لكن هناك شيء آخر أعمق. الزمن، على
سبيل المثال. هل فكرت يومًا أنك قد تكون شخصين في ذات الوقت؟ أنا هنا الآن، لكن
هناك نسخة منّي في الماضي، في لحظة مختلفة، تعيش حياة قد تكون مختلفة عن حياتي
الحالية. الزمن يشطرنا إلى نسخ مختلفة، وكل نسخة تملك تفاصيل لا نراها، ونحن
نكتشفها فقط حين ننظر في مرآة الزمن."
قلت: أتعلم !!! لقد ذكّرتني ببورخيس، له
صولات وجولات في هذا المجال، وخاصة مجال الحلم وتعدّد الحالمين
- "بورخيس، نعم! أذكره جيدًا. كان يعتقد أن كل
إنسان يعيش حياة متعددة في الوقت نفسه، مثل حلم يتعدد ويُعيد تشكيل نفسه. وفي
عالمه، لا يوجد شيء واحد فقط، بل هناك توازي للزمن والمكان، وكل حكاية يمكن أن
تُحكى بعدة طرق، مثلما تتعدد القصص في الحلم. ربما تكون فكرة بورخيس عن الحلم
مرتبطة تمامًا بما أقول. الحلم بالنسبة له كان نوعًا من الزمن المكسور، حيث يتداخل
الماضي مع الحاضر، وقد نصبح أكثر من شخص في ذات اللحظة. وفي النهاية، قد يصبح ما
نعتبره 'حلمًا' هو في الواقع الحقيقة التي لا ندركها. فهل نحن حقًا نستطيع تمييز
الحلم عن الواقع؟"
قلت ، وأنا أشعر بالحيرة:
"لكن إذا كنا نعيش هكذا، بين نسختين من
أنفسنا، هل نحن حقًا نحن؟ أم أننا مجرد صور للماضي تتنقل عبر الزمن؟"
ابتسم الرجل، وكأنما سمع هذا السؤال من قبل، ثم
أجاب:
"هذا هو الفخ، يا صديقي. في عالم غودل مثلا،
هذا ما يسمى الثنائيات. أنت لست واحدًا، بل أنت اثنان. وإذا كان الزمن يخلق هذا
الانقسام، فما الذي يمنع من أن يصبح الشخص الآخر الذي في داخلك هو الشخص الذي
تراه؟ ماذا لو تغيرت بالكامل ولم تعد أنت؟"
لحظة صمت، ثم تابع بحذر:
"وهنا يأتي الخوف... خوف من الأشياء الصغيرة
التي قد تتحكم فينا دون أن نعلم. خوف من الآخر الذي قد يكون هو أنا، أو شيء آخر،
يدخل إلى عقلي ويأخذ مكاني. من يدري؟ ربما هذا هو الجنون الذي كان يخاف منه غودل.
الجنون الذي قد يبتلعنا في لحظة."
... شعرت بشيء غريب يمر في الهواء، وكأن أفكار الرجل
بدأت تلامس شيئًا عميقًا في نفسي. كنت أفكر في تلك الثنائيات: في الزمن الذي
يفرقنا عن أنفسنا، في الأشياء الصغيرة التي قد تختفي فجأة، وفي خوف غودل من أن
نصبح شيئًا آخر لا يمكننا التنبؤ به.
ثم، في لحظة غير متوقعة، نظرت في عينيه، وكأنني
لأول مرة أراه بوضوح. شيء ما تغير في ملامحه، أو ربما كان هذا مجرد شعور يملأ
المكان، كما لو أنني كنت أراه لأول مرة، أو ربما هو لم يكن هو نفسه منذ البداية.
تردد السؤال في ذهني: "هل هو الرجل الذي كنت أعرفه؟ الرجل ذو الأسنان
المثرمة؟ أم أن هذا الشخص هو مجرد نسخة أخرى مني؟"
كان الصمت يملأ الأجواء، كأن الزمن نفسه توقف
للحظة. فجأة، همس الرجل، وكأنه قرأ أفكاري: "هل كنت تتساءل، يا صديقي، هل أنت
حقًا أنت؟ أم أنك مجرد انعكاس لنسخة قديمة منك، تتنقل بين الزمان والمكان؟"
ثم ابتسم ابتسامة غامضة، كما لو أن شيئًا ما قد تغير في أعماقه أيضًا...
وغادر المكان.. هو دائما يُغادر دون استئذان.
أشعر الآن أنني لا أستطيع أن أكون متأكدًا من شيء.
قد يكون الرجل ذو الأسنان المثرمة هو من هو، أو ربما هو شخص آخر، وأنا مجرد صورة
تائهة في مرآة الزمن...ما انا متأكد منه في اللحظة هذه، هو السيجارة التي نسيها في
علبته الملقاة أمامي على الطاولة.
اقرأ:
0 التعليقات:
إرسال تعليق