تحدث أونفري في مقدمة كتابه هذاعن فضيلة الخرائب،
يقول:
فضيلة الخرائب
تحت اسم "Monsù
Desiderio" يختبئ
رسّامان متخصصان في تصوير الخرائب خلال عصر الإصلاح المضاد، وهما ديدييه
بارا وفرانسوا دي نومي. رسامان من لورين استقرا في
نابولي. في لوحات صغيرة، مظلمة وكئيبة، تضيئها أضواء صفراء غامضة، يصوّران مشاهد
لتفجيرات كنائس، وخرائب معمارية خيالية تضم أعمدة وأهرامات، وانهيارات أصنام
وثنية، وحرائق، ومشاهد دينية تتضمن عمليات اغتيال، وهياكل حيوانات، وأجساد شهداء.
لهما أيضًا لوحتان مميزتان عن القديس أوغسطين:
الأولى بعنوان "أسطورة القديس أوغسطين: خرائب خيالية على شاطئ البحر"
مؤرخة في عام 1623، والثانية "أسطورة القديس أوغسطين: خرائب وسفينة
جانحة".
تحت سماء نهاية العالم بلون أزرق-أسود مثقوبة برفق
بضوء قمر أبيض، تمتد خرائب مدينة عظيمة كانت مزدهرة ذات يوم، محاذية لبحر مظلم ذي
زبد بنفس لون السماء. هذه المدينة، التي كانت يومًا فاخرة، أصبحت الآن مدمرة:
الجدران منهارة، الأبراج مفتتة، الأعمدة مقطوعة، القباب مثقوبة، المعمار محطم،
التماثيل مقتلعة، والمنحوتات محطمة. البحر والشاطئ مليئان ببقايا هذا المجد
القديم. هنا، قارب مستقر تحت أقواس مباشرة على الرمال؛ وهناك، قارب آخر بأشرعة
ساقطة، وكأنه حملته العاصفة من الأمواج البعيدة إلى شاطئ قريب.
تلك المباني التي كانت قصورًا، وقلاعًا، وكنائس،
ومعابد، وأماكن مقدسة، ومدارس، ومحاكم، ومكتبات، ومدرجات، ومساكن، لم تعد الآن سوى
مشاهد مسرحية متداعية، منهكة، ومهشّمة بفعل الزمن.
في اللوحة الأولى، يظهر القديس أوغسطين وحيدًا،
مرتديًا تاج الأسقف وعصاه التي ترمز إلى منصبه كراعي في هيبون. هذه المشهد يعود
إلى الفترة بين عام 395، عندما أصبح أسقفًا، وعام 430، سنة وفاته. في اللوحة
الثانية، يشاركه المشهد طفل صغير جدًا يقف أمام كومة صغيرة من الرمل.
للمطلع على فكر أوغسطين، تحيل هذه الصورة إلى
أسطورة من العصور الوسطى، حيث يلتقي اللاهوتي على الشاطئ بطفل يحاول نقل مياه
البحر بالكامل إلى حفرة صغيرة صنعها في الرمل باستخدام صدفة. يقول أوغسطين،
مؤلف الاعترافات، للطفل إنه لن يستطيع تحقيق ذلك، فيرد الطفل قبل أن
يختفي: "سيكون ذلك أسهل لي من أن تفهم أنت، بالعقل البشري وحده، أعماق سر
الثالوث الأقدس."
هل كان ذلك حقًا طفلًا؟ أم ملاكًا؟ أم الطفل يسوع
نفسه؟ يُعرف أن أوغسطين كتب مقالة عن الثالوث بين عامي 399 و419. فهل كانت هذه
العبارة صدى لتأملاته أثناء تأليفه؟
ما يهمني في كلا الحالتين ليس ما يحدث في العملين
الفنيين، بل ما يدور في عقل القديس أوغسطين وهو يمشي على شاطئ هذه المدينة
المجازية التي تحولت إلى خرائب.
لا يمكن للمرء إلا أن يفكر، بالطبع، في نهب روما
على يد ألاريك، ملك القوط الغربيين، في عام 410 – بالنسبة لي، هذا هو "التاريخ
العقلي" لهاتين اللوحتين. وهو أيضًا تاريخنا الحضاري في عصرنا هذا.
هذا التأمل في الصبر وسط الخرائب يدعونا للدخول
إلى هاتين اللوحتين، لاستكشافهما، والخروج منهما، وسرد ما يمكن تعلمه من هذا
التأمل الفلسفي مع القديس أوغسطين، الذي كتب خطبًا شهيرة عن سقوط روما.
لقد دخلت إلى هذه المساحة الصغيرة من اللوحات
بدفعة من أبواب دير لاغراس في منطقة أود.
وها هي الحكاية...
هكذا تكلم أونفري في مقدمته لهذا الكتاب...
تحليل
المقدمة:
يسعى الكاتب إلى إثارة تساؤلات فلسفية عميقة من
خلال استكشاف لوحات "Monsù
Desiderio" التي تصور خرائب ومعمارًا متداعيًا، وربطها بالسياق
التاريخي والفكري للقديس أوغسطين. يمكننا تلخيص أبرز ما يريد قوله:
1. الخرائب كرمز فلسفي وتاريخي:
الخرائب ليست مجرد مشاهد مدمرة، بل تحمل رمزية عميقة حول سقوط الحضارات والتاريخ
المتغير. الكاتب يرى فيها انعكاسًا للزمن وتأثيره على الإنسان والإنجازات البشرية.
2. التأمل في فكر القديس أوغسطين:
من خلال اللوحتين، يستحضر الكاتب أسطورة الطفل والقديس أوغسطين، حيث يتجلى العجز
البشري عن إدراك الأسرار الإلهية (مثل سر الثالوث). هذه الأسطورة تمثل أيضًا بحثًا
دائمًا عن الفهم والتأمل.
3. الربط بين الماضي والحاضر:
الكاتب يرى أن الخرائب التي صوّرها الفنانون تعكس الخراب الحضاري الذي حدث أثناء
نهب روما عام 410، وهو لحظة محورية في فكر القديس أوغسطين وأيضًا في التحولات
التاريخية. في الوقت نفسه، يعتبر أن هذه الرمزية مرتبطة بحالتنا الحضارية الراهنة
التي تواجه تحديات مشابهة.
4. الدعوة للتأمل الفلسفي:
النص ليس تحليلًا للوحات بقدر ما هو محاولة للدخول فيها وتأمل الأفكار التي قد
تُثيرها لدى المشاهد. الكاتب يريد أن يأخذ القارئ في رحلة داخل هذه اللوحات للتعلم
من "الصبر في مواجهة الخرائب" والتفاعل مع أسئلة أكبر حول الزمن،
الحضارة، والروحانية.
في
المجمل، يسعى الكاتب إلى أن يجعل القارئ يتأمل في العلاقة بين الفن، التاريخ،
والفكر البشري، وكيف يمكن لهذه العناصر أن تساعدنا على فهم أنفسنا وعالمنا في
أوقات الأزمات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق