الأربعاء، 25 ديسمبر 2024

بين الصبر والخرائب: تأملات فلسفية في الفن والتاريخ (1)

 

في مقدمة كتابه "صبر ضمن الخرائب، يتناول ميشيل أونفري "فضيلة الخرائب"، مستعينًا بلوحات الرسامين "Monsù Desiderio"، ديدييه بارا وفرانسوا دي نومي، اللذين تخصصا في تصوير الخرائب خلال عصر الإصلاح المضاد. رسامان من لورين استقرا في نابولي، وهما معروفان بابتكار لوحات صغيرة مظلمة تُضيء بنور أصفر غامض، تصوّر مشاهد من الخرائب، مثل تفجيرات الكنائس، انهيارات المعابد، حرائق، وعمليات اغتيال في سياق ديني. تظهر في أعمالهما أيضًا خرائب معمارية خيالية تضم أعمدة وأهرامات، وصور لآلهة تم تحطيمها، هياكل حيوانات، وجثث شهداء.

من بين أعمالهما البارزة، توجد لوحتان عن القديس أوغسطين: الأولى بعنوان "أسطورة القديس أوغسطين: خرائب خيالية على شاطئ البحر" (1623)، والثانية "أسطورة القديس أوغسطين: خرائب وسفينة جانحة". في هذه اللوحات، تمتد خرائب مدينة عظيمة كانت مزدهرة ذات يوم، تحاذي البحر الداكن. تحت سماء باللون الأزرق-الأسود، المثقوبة بضوء قمر أبيض، تبدو المدينة المدمرة مليئة بالبقايا: الجدران المنهارة، الأعمدة المكسورة، القباب المثقوبة، التماثيل المقلوعة.

وفي أحد المشاهد، يظهر القديس أوغسطين وحده، مرتديًا تاج الأسقف وعصاه، رمزًا لمنصبه كراعي في هيبون. في اللوحة الثانية، يشاركه مشهد طفل صغير يقف أمام كومة من الرمل. هذا المشهد، في طبيعته، يحيل إلى أسطورة شهيرة في العصور الوسطى، حيث يلتقي أوغسطين بطفل يحاول نقل مياه البحر بالكامل إلى حفرة صغيرة. يرد الطفل قائلاً: "سيكون ذلك أسهل لي من أن تفهم أنت، بالعقل البشري وحده، أعماق سر الثالوث الأقدس."

هل كان هذا الطفل مجرد طفل؟ أم ملاكًا؟ أم كان الطفل يسوع نفسه؟ في كل الأحوال، يجسد هذا اللقاء تأملات أوغسطين حول سر الثالوث، خاصة في فترة تأليفه لكتابه "مقالة عن الثالوث" بين عامي 399 و419.

ما يهم في هذه اللوحات ليس مجرد ما يحدث داخل إطارها الفني، بل ما يدور في عقل القديس أوغسطين وهو يمشي عبر الخرائب، في مدينة خيالية تحولت إلى أطلال. ومن هنا يتداخل التأمل مع التاريخ، فنتذكر فورًا سقوط روما على يد ملك القوط الغربيين، ألاريك، في عام 410. هذه اللحظة التاريخية، وفقًا لأونفري، تمثل "التاريخ العقلي" لهذه اللوحات.

وما يثير التساؤلات هو ربط هذا التأمل بالصبر في وسط الخرائب. كيف يتعامل الإنسان مع انهيار الحضارات؟ كيف يتأمل في العالم الذي يتغير من حوله؟

إن أونفري، في هذا السياق، لا يكتفي بعرض اللوحات، بل يدعو القارئ للدخول إلى عالمها والتأمل في ما يمكن تعلمه من فكر القديس أوغسطين. وبدوره، هذا التأمل في الخرائب يشير إلى "التاريخ الحضاري" الذي قد نعيش فيه اليوم، حيث نواجه تحديات مشابهة لما عايشه أوغسطين من دمار روما.

هل ميشيل أونفري في خصومة مع التاريخ؟

لا، ميشيل أونفري ليس مؤرخًا. إنه تلميذ لنيتشه، يستخدم المنهج الجينيالوجي لكشف المعتقدات الزائفة في عصرنا. في كتابه انحطاط (Décadence)، يهاجم ألفي عام من الحضارة اليهودية-المسيحية، دون أن يحدد بوضوح هذا المفهوم. ما هي أطروحته؟ الدين، وفقًا له، هو أسطورة تخدم غريزة السيطرة. هذه الخرافة عملت لقرون، مما عزز قوة الغرب، ولكن بثمن الدم، واحتقار الجسد، واستعباد العقل. اليوم، هذا النظام ينهار تدريجيًا، مهددًا بالسقوط النهائي، بعد أن أضعفته نجاحات الإلحاد وتقدم ديانة أخرى، الإسلام، التي نالت هي الأخرى بعض الانتقادات في هذا الكتاب.

لا فائدة من الخوض في تفاصيل هذا العمل الضخم. ما يستحق الاهتمام هنا هو الأدوات التي يستخدمها المؤلف لدعم أطروحته تحت ستار موقف فكري يبدو وصفياً ولكنه مضلل.

أولاً، يتمتع ميشيل أونفري بأسلوب كتابة مميّز. كتابه سهل وممتع للقراءة. الأفكار واضحة ومدعومة بتكرار تربوي يُذكِّر القارئ باستمرار بالفكرة الأساسية ويعيد عرض خطوات التفكير. مهارته في صياغة العبارات تصيب الهدف. ومع ذلك، فإن هذا الشكل الجذاب يخفي نقاط ضعف منهجية حقيقية.

من الواضح أن المحاكمة هنا قائمة على اتهام صريح. تتكرر أساليب السرد بطريقة أقرب إلى الهوس، لجمع الاتهامات. هذه السيول الكلامية تعكس شغفًا بالمفارقات الغريبة، مما يجعل المؤلف أشبه بجامع لمقتنيات غريبة في غرفة فضول أكثر من كونه مؤرخًا يسعى لسرد الأحداث بموضوعية ودقة. السخرية اللاذعة أداة يستخدمها أونفري بانتظام للتقليل من شأن خصومه  . التصريحات الجازمة تُطرح بثقة وكأنها حقائق، رغم أنها قد لا تكون كذلك. روح الدعابة اللامعة تهيمن أحيانًا على الحقيقة. الأخطاء، الكليشيهات، الإغفالات، التبسيطات، أو حتى المفارقات التاريخية لا تهم بالنسبة له!

أما الببليوغرافيا فهي فقيرة بشكل مدهش. عدد المصادر قليل، وجودتها متفاوتة. يستشهد المؤلف بمراجع ممتازة، لكنه يستخدمها لدعم حججه الخاصة فقط. ومن المدهش أيضًا عدد الكتب التي عفا عليها الزمن ضمن مراجع الكتاب. هل يعيد المؤلف تدوير الخطابات القديمة؟ على أي حال، فإن الأعمال البحثية الحديثة والمتنوعة لم تأخذ حقها الكافي.

غياب الملاحظات يثير الحيرة. قد نفهم أن تُرجأ الملاحظات إلى نهاية الكتاب لتسهيل القراءة العامة. ولكن هنا، هي غير موجودة تمامًا. يجب على القارئ أن يثق بالمؤلف دون أن يتمكن من التحقق من المصادر أو تكوين رأيه الخاص بمقارنتها. هذا الغياب يجعل النقد المضاد صعبًا، ويثير تساؤلات حول جدية أو حتى نزاهة النهج.

إذًا، ما الجديد؟ الحضارات زائلة – هذه حقيقة معروفة منذ زمن طويل. العنف هو جوهر المسيحية – يمكننا التشكيك في ذلك. لكن، لسوء الحظ، قد تجعل شعبية ميشيل أونفري من هذا الكتاب دليلًا تاريخيًا، بينما هو في الحقيقة يستغل التاريخ لدفع أطروحته التي بدأها في كتابه أطروحة في الإلحاد (Traité d’athéologie) عام 2005.

في إصدارها الربيعي، دعت مجلة Codex خمسة مؤرخين للرد على الكتاب. ولم يترددوا في تقديم آرائهم النقدية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

بحث في المدونة