الأحد، 5 يناير 2025

عن ريتشارد فاينمان(2)

القسم الأول


 من فار روكاواي إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (2) 


 قبل شروعك في قراءة هذه التدوينة، أقترح عليك قراءة سابقتها.

[...]كنا نعيش في ذلك الوقت في منزل كبير؛ كان قد تركه جدي لأبنائه، ولم يكن لديهم الكثير من المال بخلاف المنزل. كان منزلًا خشبيًا كبيرًا، وكنت أشبك الأسلاك حول الخارج، وكان لدي مقابس في جميع الغرف، حتى أتمكن دائمًا من الاستماع إلى راديوهاتي التي كانت في الطابق العلوي في مختبري. كان لدي أيضًا مكبر صوت – ليس كاملًا، بل الجزء الذي لا يحتوي على الجرس الكبير.

في يوم من الأيام، عندما كنت أضع سماعات الأذن، قمت بتوصيلها بمكبر الصوت، فاكتشفت شيئًا: وضعت إصبعي في المكبر وسمعته في السماعات؛ خدشت المكبر فسمعته في السماعات. لذا اكتشفت أن المكبر يمكن أن يعمل كميكروفون،  وحتى دون بطاريات. في المدرسة كنا نتحدث عن ألكسندر غراهام بيل، فقمت بعرض عملي حول المكبر والسماعات. لم أكن أعرف ذلك  وقتها، ولكن أعتقد أنه كان  نوع   الهاتف الذي استخدمه في البداية.

إذن الآن لدي ميكروفون، ويمكنني البث من الطابق العلوي إلى الطابق السفلي، ومن الطابق السفلي إلى الطابق العلوي، باستخدام مكبرات الصوت الخاصة براديوهات أسواق التحف التي كنت أشتريها. في ذلك الوقت، كانت أختي جوان، التي كانت تصغرني بتسع سنوات، في سن الثانية أو الثالثة على الأرجح، وكان هناك شخص في الراديو يُدعى "العم دون" كانت تحب الاستماع إليه. كان يغني أغانٍ قصيرة عن "الأطفال الطيبين"، وما إلى ذلك، وكان يقرأ بطاقات يرسلها الآباء، يُخبرون فيها أن "ماري فلان الفلاني ستحتفل بعيد ميلادها هذا السبت في 25 شارع فلاتبوش".

في أحد الأيام، جلست أنا وابن عمي فرانسيس مع جوان وأخبرناها أن هناك برنامجًا خاصًا يجب أن تستمع إليه. ثم صعدنا إلى الأعلى وبدأنا بالبث: "هنا العم دون. نعرف فتاة صغيرة لطيفة جدًا تُدعى جوان التي تعيش في نيو برودواي؛ لديها عيد ميلاد قادم - ليس اليوم، ولكن في تاريخ كذا وكذا. إنها فتاة رائعة." غنينا أغنية قصيرة، ثم ألّفنا بعض الموسيقى: "ديدل ليت ديت، دودل دودل لوت دوت؛ ديدل ديدل ليت، دودل لوت دوت دوو". مررنا بكل التفاصيل، ثم نزلنا إلى الأسفل: "كيف بدا لك الأمر؟ هل أعجبك البرنامج؟"

"كان جيدًا" قالت ، "لكن لماذا عزفت الموسيقى بفمك؟"

في يوم من الأيام، تلقيت مكالمة هاتفية: "يا سيد، هل أنت ريتشارد فاينمان؟"

"نعم."

 "هنا فندق. لدينا راديو لا يعمل، ونود إصلاحه. نعلم أنك قد تتمكن من مساعدتنا."

"لكنني مجرد طفل صغير"، قلت. "لا أعرف كيف--..."

 "نعم، نعلم ذلك، لكننا نود منك أن تأتي على أي حال."

كان ذلك فندقًا تديره عمتي، لكنني لم أكن أعرف ذلك. ذهبت إلى هناك ومعي - لا يزالون يروون القصة - مفك براغي كبير في. حسنًا، كنت صغيرًا، لذا بدا أي مفك براغي كبيرًا في حقيبتي الظهرية.

صعدت إلى الراديو وحاولت إصلاحه. لم أكن أعرف أي شيء عن ذلك، لكن كان هناك أيضًا عامل صيانة في الفندق، وإما أنه لاحظ، أو لاحظت أنا، أن هناك مقبضًا مفكوكًا على الريوستا rheostat — للتحكم في حجم الصوت — بحيث لم يكن يدير العمود. ذهب وأخذ يُعدل شيئًا وأصلحه حتى بدأ يعمل.

أما الراديو التالي الذي حاولت إصلاحه فلم يعمل على الإطلاق. كان ذلك سهلًا: كان ببساطة غير موصول بشكل صحيح. مع تزايد تعقيد أعمال الإصلاح، أصبحت أفضل وأفضل، وأصبحت أكثر إتقانا. اشتريت لنفسي مقياس ميلي أمبير في نيويورك وحولته إلى مقياس فولت مع مقاييس مختلفة عليه باستخدام الأطوال الصحيحة (التي حسبتها) من أسلاك النحاس الرفيعة. لم يكن دقيقًا جدًا، لكنه كان جيدًا بما فيه الكفاية لتحديد ما إذا كانت الأشياء في النطاق الصحيح في مختلف الوصلات داخل تلك الأجهزة الراديوية.

السبب الرئيسي الذي جعل الناس يوظفوني كان الكساد. لم يكن لديهم مال لإصلاح راديواتهم، وكانوا يسمعون عن هذا الفتى الذي سيقوم بذلك مقابل ثمن زهيد. لذا كنت أتسلق الأسطح لإصلاح الهوائيات، وأقوم بكل أنواع الأشياء. حصلت على سلسلة من الدروس التي كانت صعوبتها تزداد تدريجيًا. وفي النهاية، حصلت على بعض المهام كتحويل جهاز يعمل بالتيار المباشر إلى جهاز يعمل بالتيار المتناوب، وكان من الصعب جدًا منع التشويش من المرور عبر النظام، ولم أبنيه بشكل صحيح. ما كان يجب علي أن أقبل تلك المهمة، لكنني لم أكن أعرف.

إحدى هذه المهام كانت مذهلة حقًا. كنت أعمل في ذلك الوقت لدى مطبعة، وكان رجل يعرف صاحب المطبعة يعلم أنني كنت أحاول الحصول على وظائف لإصلاح الراديوهات، فأرسل شخصًا ليأخذني من المطبعة. كان واضحًا أن هذا الرجل فقير—سيارته كانت في حالة مزرية—ذهبنا إلى منزله الذي كان في جزء هش من المدينة. وفي الطريق، قلت له: "ما مشكلة الراديو؟"

قال: "عندما أشغله، يصدر صوتًا، وبعد فترة يتوقف الصوت وتصبح الأمور على ما يرام، لكنني لا أحب الصوت في البداية."

فكرت في نفسي: "ما هذا! لو لم يكن لديه مال، أظنه سيتمكن منتحمّل بعض الضوضاء لفترة. "

وكان طوال الطريق إلى منزله، يقول أشياء مثل: "هل تعرف شيئًا عن الراديوهات؟ كيف تعرف عن الراديوهات—أنت مجرد فتى صغير !"

كان يقلل من شأني طوال الطريق، وكنت أقول في نفسي: "ما مشكلته ؟ مجرد ضوضاء بسيط".

لكن عندما وصلنا، ذهبت إلى الراديو وأشغلته. ضوضاء بسيطة؟ يا إلهي! لا عجب أن الرجل المسكين لم يستطع التحمل. بدأ الجهاز يصدر ضوضاء قويا واهتزازات—وُووه بُوووه بُوووه بُوووه —كمية ضخمة من الضوضاء. ثم هدأ وبدأ يعمل بشكل صحيح. فبدأت أفكر: "كيف يمكن أن يحدث ذلك؟"

 بدأت أمشي ذهابًا وإيابًا، أفكر، وأدرك أن أحد الأسباب التي قد تجعل ذلك يحدث هو أن الأنابيب تسخن بالترتيب الخاطئ—أي أن المُضخّم (الأمبليفاير) ساخن جدًا، والأنابيب جاهزة للعمل، ولكن لا يوجد ما يُغذّيها، أو أن هناك دارة عكسية تُغذيها، أو شيء خاطئ في الجزء الأول—الجزء عالي التردد—وبالتالي تصدر ضوضاء كبيرة، ربما تلتقط شيئًا ما. وعندما تبدأ دارة الترددات الراديوية بالعمل أخيرًا، وتضبط الفولتات على الشبكة، يصبح كل شيء على ما يرام.

قال الرجل: "ماذا تفعل؟ أتيت لإصلاح الراديو، لكنك فقط تمشي ذهابًا وإيابًا !"أجبته: 'أنا أفكر!' ثم قلت في نفسي: "حسنًا، خذ الأنابيب، وقم بعكس الترتيب تمامًا في الجهاز."(كانت العديد من أجهزة الراديو في تلك الأيام تستخدم نفس الأنابيب في أماكن مختلفة—أعتقد أنها كانت 212 أو 212 A) غيرت الأنابيب، وقفت مقابل الراديو، شغّلته، وكان هادئًا كالحمل: انتظر حتى سخن تمامًا، ثم بدأ يعمل بشكل مثالي—دون ضوضاء."

عندما يكون الشخص سلبيًا تجاهك، ثم تقوم بفعل شيء مثل ذلك، فإنه عادةً ما يتغير بشكل كامل إلى الجهة الأخرى، نوعًا ما كتعويض. أصبح يرسل لي وظائف أخرى، وكان يروي للجميع عن مدى عبقريتي ، قائلاً:" إنه يصلح أجهزة الراديو عن طريق التفكير!" إن فكرة التفكير لإصلاح جهاز راديو—صبي صغير يتوقف ويفكر، ثم يكتشف كيفية القيام بذلك—لم يكن أبدا يعتقد أن ذلك ممكنا."

كانت دوائر الراديو أسهل في الفهم في تلك الأيام لأن كل شيء كان مكشوفًا. بعد أن تفكك الجهاز (كان من الصعب العثور على البراغي الصحيحة)، كنت تستطيع رؤية هذا على أنه مقاومة، وذاك مكثفة، وهذا هنا، وذاك هناك؛ كانت كل القطع مُسمّاة. وإذا كان الشمع يتساقط من المكثفة، فهذا يعني أنها ساخنة جدًا ويمكنك أن تقول أن المكثفة قد احترقت. وإذا كان هناك فحم على أحد المقاومات، فستعرف مكان المشكلة. أو، إذا لم تتمكن من تحديد ما هو الخطأ بالنظر إليه، فعليك اختباره باستخدام الفولتمتر لترى إذا كان التيار يمر عبره. كانت الأجهزة بسيطة، والدارات لم تكن معقدة. كان الجهد على الشبكات دائمًا حوالي واحد ونصف أو اثنين فولت، وكانت الجهود على الألواح مئة أو مئتين فولت، تيار مستمر.  لذا لم يكن من الصعب علي إصلاح جهاز راديو بفهم ما يحدث بداخله، وملاحظة أن شيئًا ما لا يعمل بشكل صحيح، ومن ثمة إصلاحه.

في بعض الأحيان كان الأمر يستغرق وقتًا طويلاً. أتذكر مرة استغرق فيها الأمر مني فترة ما بعد الظهر كاملة للعثور على مقاومة محترقة لم تكن ظاهرةً. في تلك المرة كان صديقًا لوالدتي، لذا كان لدي وقت—لم يكن هناك أحد يقول لي، "ماذا تفعل؟" بل كانوا يقولون، "هل ترغب في بعض الحليب، أو الكعك؟" وفي آخر المطاف أصلحت العطل لأنني كنت وما زلت أتمتع بالإصرار.  بمجرد أن أعلق في لغز، لا أستطيع التوقف. إذا ما قالت صديقة والدتي ، "لا تهتم، هناك عمل كثير "كنت سأفقد أعصابي، لأنني أريد أن أتغلب على هذا الشيء اللعين، طالما أنني وصلت إلى هذا الحد. لا أستطيع تركه بعد أن اكتشفت الكثير عنه. يجب أن أستمر في البحث حتى أكتشف في النهاية ما هو الخطأ فيه."

هذه هي الدوافع وراء حبي للألغاز. إنها تفسر رغبتي في فك شفرات هيروغليفيا المايا، ومحاولاتي لفتح الخزائن. أتذكر في المدرسة الثانوية، أثناء الحصة الأولى، كان يأتي إليّ أحدهم مع لغز في الهندسة أو شيء ما تم تعيينه في صفه للرياضيات المتقدمة. لم أكن أتوقف حتى أحل اللغز اللعين—كان يستغرق مني حوالي خمس عشرة أو عشرين دقيقة. لكن خلال اليوم، كان يأتي إليّ أشخاص آخرون بنفس المشكلة، فكنت أحلها لهم في لمح البصر. لذلك، بالنسبة لأحدهم، كان حلها يستغرق مني عشرين دقيقة، بينما كان هناك خمسة آخرون يعتقدون أنني عبقري خارق.

لذلك اكتسبت سمعة مميزة. خلال المدرسة الثانوية، كل لغز عرفه البشر كان يأتي إليّ. كل لغز مجنون، وكل مشكلة اخترعها الناس، كنت أعرفها. وعندما التحقت بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، كان هناك حفل رقص، وكان أحد الطلاب الكبار مع صديقته، وكانت هي تعرف الكثير من الألغاز، وكان يخبرها أنني جيد في حل الألغاز. أثناء الرقص، اقتربت مني وقالت: "يقولون إنك شخص ذكي، لذا إليك هذا اللغز: رجل لديه ثمانية حزم من الخشب لتقطيعها...."

فقلت: 'يبدأ بتقطيع كل واحدة من الآخرين إلى ثلاثة أجزاء'، لأنني كنت قد سمعت هذا اللغز من قبل. ثم تبتعد وتعود مع لغز آخر، وكنت دائمًا أعرف الحل. استمر هذا لفترة طويلة، وأخيرًا، قرب نهاية الرقص، اقتربت مني، وكانت تبدو وكأنها ستوقعني هذه المرة بالتأكيد، وقالت: 'أم وابنتها في طريقهما إلى أوروبا...'.

 "ابنتها أصيبت بالطاعون الدملي"...قلتُ.

 انهارت! لم تكن تلك أدلة كافية لحل ذلك اللغز: كانت القصة الطويلة تدور حول أم وابنتها توقفتا في فندق، حيث أقامتا في غرفتين منفصلتين. وفي اليوم التالي، ذهبت الأم إلى غرفة ابنتها، لكنها لم تجدها، أو وجدت شخصًا آخر مكانها. فسألت: 'أين ابنتي؟' ليرد صاحب الفندق متسائلًا: 'أي ابنة؟' ولم يكن سجل الفندق يحتوي سوى على اسم الأم. وهكذا، كان هناك لغز كبير حول ما جرى. الجواب هو أن الابنة أصيبت بالطاعون، ولخشية الفندق من الإغلاق، قام بإخفاء الابنة، وتنظيف الغرفة، وإزالة كل الأدلة على وجودها. كانت القصة طويلة، لكنني كنت قد سمعتها من قبل. وعندما بدأت الفتاة قولها بـ: 'أم وابنتها تسافران إلى أوروبا'، عرفت فورًا أن هناك قصة واحدة تبدأ بهذه الطريقة، فقلت لنفسي: 'لأخمن'، وأصبت.



السابق       التالي

 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

بحث في المدونة