بتاريخ 03/09/2023، قمت بتحميل كتاب بعنوان
"برهان غودل" تأليف إرنست ناغل و جايمس ر نيومان، أما المقدمة فبقلم
:دوغلاس ر. هوفستاتر. وحين شرعت في القراءة، شدتني المقدمة فقررت ترجمتها، ونشرها هنا.
في أوت 1959، عادت عائلتي إلى ستانفورد، كاليفورنيا، بعد
عام أمضيناه في جنيف. كنت آنذاك في الرابعة عشرة من عمري، وقد أصبحت طليقًا في
الفرنسية، مغرمًا باللغات، ومفتونًا بأنظمة الكتابة والرموز وغموض المعنى. كنت
أيضًا ممتلئًا بالفضول تجاه الرياضيات وآلية عمل العقل.
في إحدى الأمسيات، رافقت والدي إلى مكتبة، حيث وقع نظري على كتاب صغير
يحمل عنوانًا غامضًا: "برهان غودل". أثناء تصفحي له، لفتتني الأشكال
والصيغ المثيرة التي امتلأت بها صفحاته، لكن ما أثار اهتمامي بشكل خاص كان حاشية
تتحدث عن علامات اقتباس، رموز، و رموز ترمز إلى رموز أخرى. شعرت بإحساس غريزي بأن
"برهان غودل" وأنا كنا مقدّرين لبعضنا البعض، فأيقنت أنه يجب علي اقتناؤه.
وأثناء خروجنا،
أشار والدي إلى أنه كان قد درس الفلسفة في كلية مدينة نيويورك على يد أحد مؤلفي
الكتاب، إرنست ناغل، وأنهما أصبحا صديقين مقربين بعد ذلك. أضفت هذه المصادفة هالة
من الغموض والسحر على الكتاب، وبمجرد عودتي إلى المنزل، التهمت كل كلمة فيه بنهم
شديد. من الغلاف إلى الغلاف، كان صدى "برهان غودل" يتردد بعمق في أعماق
شغفي؛ وفجأة، وجدت نفسي مأسورًا بمفاهيم الحقيقة والزيف، والمفارقات والبراهين،
والتخطيطات والانعكاسات، والتلاعب بالرموز والمنطق الرمزي، والرياضيات وما وراء
الرياضيات، وغموض القفزات الإبداعية في التفكير البشري، وآليات العقل الميكانيكية.
بعد فترة وجيزة،
أخبرني والدي أنه صادف إرنست ناغل في الحرم الجامعي. كان الأستاذ ناغل، الذي يدرّس
عادةً في جامعة كولومبيا، يقضي عامًا أكاديميًا في جامعة ستانفورد. خلال أيام
قليلة، اجتمعت عائلتانا، وسرعان ما أُعجبت بجميع أفراد عائلة ناغل الأربعة: إرنست
وإديث، وولديهما ساندي وبوبي، اللذين كانا قريبين من سني. شعرت بفرحة غامرة بلقاء
مؤلف كتاب أحببته بشدة، ووجدت في إرنست وإديث ترحيبًا دافئًا بحماستي المراهقة
للعلوم والفلسفة والموسيقى والفن.
وسرعان ما أوشك
عام الإجازة لعائلة ناغل على نهايته، لكن قبل رحيلهم، قدموا لي دعوة دافئة لقضاء
أسبوع صيفي في كوخهم بولاية فيرمونت. خلال تلك الإقامة الحالمة، تجسدت في إرنست
وإديث قمة الرقي والكرم والتواضع، وظلا محفورين في ذاكرتي حتى يومنا هذا. أما
اللحظة الأجمل بالنسبة لي فكانت خلال عصرين مشرقين، حين جلست مع ساندي في مرج أخضر
غارق في الطبيعة، وقرأت له بصوت عالٍ كتاب برهان غودل بالكامل.
يا لها من متعة فريدة أن أقرأ هذا الكتاب لابن أحد مؤلفيه!
على مدى السنوات
القليلة التالية، استكشفت مع ساندي أنماط الأعداد عبر المراسلات، بطريقة تركت
أثرًا عميقًا في مجرى حياتي، وربما في حياته أيضًا. استمر ساندي—الذي أصبح يُعرف
باسم أليكس—ليصبح أستاذًا في الرياضيات بجامعة ويسكونسن. أما بوبي، فقد ظل صديقًا
مقربًا، وهو اليوم أستاذ في الفيزياء بجامعة شيكاغو، ونلتقي بين الحين والآخر
بفرحة غامرة.
كم كنت أتمنى لو
استطعت القول إنني التقيت بجيمس نيومان. تلقيت كهدية تخرج من المدرسة الثانوية
مجموعته الرائعة المؤلفة من أربعة مجلدات، عالم الرياضيات. لطالما
أُعجبت بأسلوبه البديع في الكتابة وبشغفه العميق بالرياضيات، لكن للأسف، لم تجمعنا
الأقدار يومًا.
في جامعة
ستانفورد، تخصصت في الرياضيات، وكان شغفي بالأفكار التي وردت في كتاب ناغل ونيومان
دافعًا لي لحضور بضع دورات في المنطق و الميتا-رياضيات، لكنني سرعان ما شعرت بخيبة
أمل عميقة بسبب جفافها. لم يمضِ وقت طويل حتى التحقت بالدراسات العليا في
الرياضيات، إلا أن خيبتي تكررت. عندها قررت ترك الرياضيات والتوجه نحو الفيزياء،
لكن بعد بضع سنوات، وجدت نفسي مرة أخرى في متاهة من التجريد والارتباك.
في أحد أيام عام
1972، كنت أبحث عن متنفس حين مررت بمكتبة الجامعة، وهناك صادفت كتاب "لمحة عن المنطق الرياضي" لهوارد
ديلونغ. كان لهذا الكتاب تأثير مكهرب عليّ، يكاد يضاهي الأثر الذي تركه "برهان غودل" عليّ
عام 1959. بأسلوبه الواضح، أشعل هذا الكتاب شرارات الحب القديم للمنطق والميتا-رياضيات،
ولتلك التشابكات العجيبة التي ربطتها دائمًا بنظرية غودل وبرهانها. لقد كنت قد
فقدت نسختي الأصلية من كتيب ناغل ونيومان السحري منذ زمن، فاشتريت نسخة جديدة —
ولحسن الحظ، كان لا يزال متوفرًا! — وأعدت قراءته بشغف متجدد.
في ذلك الصيف،
أثناء استراحتي من الدراسات العليا وقيادتي للسيارة عبر القارة، خيمت في الهواء
الطلق وقرأت باهتمام عميق عن أعمال غودل، وطبيعة التفكير، وحلم مكننة العقل
والوعي. ومن دون تخطيط، انتهى بي المطاف في مدينة نيويورك، وكان أول من تواصلت
معهم هما صديقاي القديمان إرنست وإديث ناغل، اللذان أصبحا مرشدين فكريين وعاطفيين
لي. على مدار الأشهر التالية، قضيت أمسيات لا تُحصى في شقتهما، حيث ناقشنا بحماسة
العديد من المواضيع، بما في ذلك بالطبع برهان غودل وتداعياته.
لقد كان عام 1972
بداية انخراطي الشخصي المكثف في نظرية غودل والمجال الواسع من الأفكار التي تحيط
بها. على مدار السنوات القليلة التالية، طورت مجموعة من الاستكشافات الفريدة حول
هذا التداخل الفكري، وانتهى بي الأمر بتسميتها "غودل، إيشر، باخ: الضفيرة
الذهبية الأبدية". ولا شك أن والدي هذا الكتاب الضخم كان كتاب ناغل ونيومان
من جهة، وكتاب هوارد ديلونغ من جهة أخرى.
ما موضوع عمل غودل؟ كان كيرت غودل، المنطقي
النمساوي المولود في عام 1906، غارقًا في الأجواء الرياضية في عصره، الذي تميز
بالاندفاع المستمر نحو الصورية. وكان الناس مقتنعين بأن التفكير الرياضياتي يمكن
تمثيله بقوانين التلاعب الرمزي البحت. من مجموعة ثابتة من البديهيات وقواعد طباعية
محددة، كان من الممكن تحريك الرموز وإنتاج سلاسل جديدة من الرموز، تُسمى "نظريات".
كانت ذروة هذه الحركة عملًا ضخمًا من ثلاثة مجلدات من تأليف برتراند راسل وألفريد
نورث وايتهايد بعنوان "مبادئ الرياضيات"، الذي نُشر بين عامي 1910
و1913. كان راسل ووايتهايد يعتقدان أنهما قد أسسا جميع الرياضيات على المنطق
الخالص، وأن عملهما سيشكل الأساس المتين لجميع الرياضيات إلى الأبد.
بضعة عقود بعد ذلك،
بدأ غودل يشكك في هذه الرؤية النبيلة، وفي يوم من الأيام، بينما كان يدرس الأنماط
الصارمة للغاية للرموز في هذه المجلدات، خطرت له فكرة مفادها أن هذه الأنماط تشبه
إلى حد كبير أنماط الأعداد، لدرجة أنه كان بإمكانه بالفعل استبدال كل رمز بعدد
وإعادة فهم كتاب "مبادئ الرياضيات" ليس كعملية تحويل للرموز، بل كعملية
معالجة للأعداد (باستعارة مصطلح حديث). كانت لهذه الطريقة الجديدة في النظر إلى
الأشياء تأثير مذهل: بما أن موضوع "مبادئ الرياضيات" كان الأعداد، وبما
أن غودل حول الوسيط الذي تألفت منه المجلدات إلى أعداد أيضًا، فقد أظهر هذا أن
"مبادئ الرياضيات" كان يتناول موضوعه بنفسه، أو بعبارة أخرى، أن الصيغ
النمطية في نظام راسل ووايتهيد يمكن أن تُفهم على أنها تقول أشياء عن بعضها البعض،
أو ربما حتى عن نفسها.
لقد كان هذا الالتفاف بمثابة تحول غير متوقع للأحداث، لأنه جلب حتمًا مفارقات
قديمة تتعلق بالمرجعية الذاتية إلى ذهن
غودل، وأبرزها: "هذه العبارة خاطئة". ومن خلال استخدام هذا النوع من
المفارقات كدليل له، أدرك غودل أنه من حيث المبدأ يمكنه كتابة صيغة في كتاب مبادئ
الرياضيات تقول عن نفسها بشكل معكوس: "هذه الصيغة لا يمكن إثباتها وفقًا
لقواعد مبادئ الرياضيات". كان وجود مثل هذه الصيغة الملتوية يشكل تهديدًا هائلًا
لصروح راسل ووايتهيد، لأنهما جعلا من القضاء التام على "الحلقات
المفرغة" هدفًا مقدسًا، وكانا على قناعة أنهما قد فازا في المعركة. ولكن الآن
بدا أن الحلقات المفرغة قد دخلت عالمهما البكر من الباب الخلفي، وأصبح صندوق
باندورا مفتوحًا على مصراعيه.
كان لابد من التعامل مع صيغة غودل التي تقوض ذاتها، وقد
فعل غودل ذلك بمهارة فائقة، حيث أظهر أنه رغم تشابهها مع المفارقة، إلا أنها تختلف
عنها بشكل دقيق. على وجه الخصوص، تبين أنها عبارة صحيحة لا يمكن إثباتها باستخدام
قواعد النظام — بل إنها عبارة صحيحة لا يمكن إثباتها إلا بسبب صحتها.
وبهذه الطريقة الجريئة والمفاجئة، اقتحم غودل حصن مبادئ الرياضيات وأسقطه إلى أنقاض. كما
أظهر أن طريقته تنطبق على أي نظام كان يسعى لتحقيق أهداف مبادئ الرياضيات. وبالتالي، دمر غودل آمال
أولئك الذين اعتقدوا أن التفكير الرياضي يمكن أن يُحاصر في صرامة الأنظمة
البديهية، مما أجبر علماء الرياضيات والمنطق والفلاسفة على استكشاف الهوة الغامضة
التي تم اكتشافها حديثًا، والتي تفصل بشكل لا رجعة فيه بين الإثبات والحقيقة.
منذ ظهور غودل، أصبح من الواضح مدى دقة وعمق فن التفكير
الرياضي، وأصبح الأمل المشرق في ميكنة الفكر الرياضي البشري يبدو متزعزعًا، إن لم
يكن خياليًا تمامًا. إذن، ما الذي يُعتبر التفكير الرياضي بعد غودل؟ وما هي
الحقيقة الرياضية بعد غودل؟ بل، ما هي الحقيقة بشكل عام؟ هذه هي القضايا المركزية
التي لا تزال دون حل، بعد سبعين عامًا من نشر ورقة غودل التي أحدثت ثورة في هذا
المجال.
ورغم أن
كتابي مدين لناغل ونيومان بقدر كبير، إلا أنه لا يتفق مع جميع استنتاجاتهما
الفلسفية، وهنا أود أن أشير إلى فارق رئيسي. في "تأملاتهما الختامية"،
يزعم ناغل ونيومان أن اكتشافات غودل تستنتج أن أجهزة الكمبيوتر — "الآلات
الحاسبة"، كما يسميانها — غير قادرة من حيث المبدأ على التفكير بمرونة كما
نفعل نحن البشر، وهي النتيجة التي يفترض أنها تترتب على حقيقة مفادها أن أجهزة
الكمبيوتر تتبع "مجموعة ثابتة من التوجيهات" (أي برنامج). وبالنسبة لناغل
ونيومان، تتوافق هذه الفكرة مع مجموعة ثابتة من البديهيات وقواعد الاستدلال —
وسلوك الكمبيوتر، أثناء تنفيذه لبرنامجه، يعادل سلوك آلة تنتج بشكل منهجي أدلة على
النظريات في نظام رسمي. وهذا الربط بين الكمبيوتر والنظام الرسمي يأخذ مصطلح
"آلة حاسبة" بشكل حرفي — أي آلة مصممة للتعامل مع الأرقام والحقائق
الحسابية فقط. إن الفكرة القائلة بأن مثل هذه الآلات بطبيعتها قادرة على إنتاج
مجموعات من العبارات الصحيحة حول الرياضيات مغرية، ولا شك أنها تحتوي على جزء من
الحقيقة، لكنها بعيدة عن الرؤية الكاملة لقوة وتنوع أجهزة الكمبيوتر.
ورغم أن أجهزة الكمبيوتر، كما يوحي اسمها، مبنية من
أجهزة حسابية صارمة، فإن تصميمها لا يربطها ارتباطًا وثيقًا بالحقيقة الرياضية.
فليس من الصعب جعل الكمبيوتر يطبع كميات هائلة من الحسابات الخاطئة ("2 + 2 =
5؛ 0/0 = 43"، إلخ) مقارنة بطباعة النظريات في نظام صوري. والتحدي الأكثر دقة
يكمن في ابتكار "مجموعة ثابتة من التوجيهات" التي قد يستخدمها الكمبيوتر
لاستكشاف عالم الأفكار الرياضية (وليس مجرد سلاسل من الرموز الرياضية)، مسترشدًا
بالصور البصرية، والأنماط الترابطية التي تربط بين المفاهيم، والعمليات البديهية
مثل التخمين، والتمثيل، والاختيار الجمالي التي يستخدمها كل عالم رياضيات.
عندما كان ناغل
ونيومان يؤلفان برهان غودل، كان
هدف جعل أجهزة الكمبيوتر تفكر مثل البشر — أي الذكاء الاصطناعي — جديدًا للغاية
وكانت إمكاناته غير واضحة. وكان التوجه الرئيسي في تلك الأيام الأولى هو استخدام
أجهزة الكمبيوتر كتجسيدات ميكانيكية لأنظمة بديهية، وعلى هذا النحو، لم تفعل شيئًا
سوى إنتاج براهين على النظريات. ومن المسلم به الآن أنه إذا كان هذا النهج يمثل
النطاق الكامل للكيفية التي قد تُستخدم بها أجهزة الكمبيوتر، من حيث المبدأ،
لنمذجة الإدراك، فإن ناغل ونيومان سيكونان محقين تمامًا في الزعم، استنادًا إلى
اكتشافات غودل، أن أجهزة الكمبيوتر، بغض النظر عن سرعة حساباتها أو سعة ذاكرتها،
أقل مرونة وبصيرة من العقل البشري بالضرورة.
لكن إثبات النظريات يُعد من بين أقل الطرق دقة لمحاولة
جعل أجهزة الكمبيوتر تفكر. فلننظر إلى برنامج "AM"
الذي كتبه دوغلاس لينات في منتصف السبعينيات. بدلاً من العبارات الرياضية، كان "AM"
يتعامل مع المفاهيم؛ وكان هدفه البحث عن
"المفاهيم المثيرة للاهتمام"، باستخدام نموذج بدائي للجماليات والبساطة.
بدءًا من الصفر، اكتشف "AM" العديد
من مفاهيم نظرية الأعداد. بدلاً من إثبات النظريات منطقياً، تجول "AM" في عالم الأعداد، متبعًا أنفه الجمالي البدائي،
مستنشقًا الأنماط، ومخمنًا إياها. كما هو الحال مع الإنسان الذكي، كانت معظم
تخمينات "AM" صحيحة، وبعضها كان
خاطئًا، وبالنسبة للقليل منها، لا تزال هيئة المحلفين في انتظار الحكم.
ولإيجاد طريقة أخرى لنمذجة العمليات العقلية حاسوبياً،
لنأخذ الشبكات العصبية ـ وهي أبعد ما تكون عن نموذج إثبات النظريات. وبما أن خلايا
الدماغ مترابطة مع بعضها في أنماط معينة، وبما أن المرء يمكنه تقليد أي نمط من هذه
الأنماط في البرمجيات ـ أي في "مجموعة ثابتة من التوجيهات" ـ فإنه من
الممكن تسخير قوة محرك الحساب لتقليد الدوائر الدماغية المجهرية وسلوكها. وقد درس
علماء الإدراك هذه النماذج لسنوات عديدة، ووجدوا أن العديد من أنماط التعلم
البشري، بما في ذلك ارتكاب الأخطاء كمنتج ثانوي تلقائي، يمكن تكرارها بدقة.
والهدف من هذين المثالين (ويمكنني أن أذكر المزيد) هو
أن التفكير البشري، بكل ما فيه من مرونة وقابلية للخطأ، يمكن من حيث المبدأ نمذجته
من خلال "مجموعة ثابتة من التوجيهات"، شريطة أن يتحرر المرء من الفكرة
المسبقة القائلة بأن أجهزة الكمبيوتر، المبنية على العمليات الحسابية، لا تستطيع
أن تفعل شيئًا سوى إنتاج الحقيقة، الحقيقة كاملة، ولا شيء غير الحقيقة. إن هذه
الفكرة، على الرغم من أنها تكمن في صميم أنظمة الاستدلال البديهي الشكلية، إلا أنه
لم يعد أحد اليوم يأخذ مثل هذه الأنظمة على محمل الجد كنموذج لما يفعله العقل
البشري، حتى في أكثر حالاته المنطقية. نحن الآن ندرك أن العقل البشري ليس محركًا
منطقيا في جوهره، بل هو محرك تشبيه، ومحرك تعلم، ومحرك تخمين، ومحرك مدفوع
بالجماليات، ومحرك تصحيح ذاتي. وبعد أن فهمنا هذا الدرس بعمق، أصبحنا قادرين
تمامًا على صنع "مجموعات ثابتة من التوجيهات" تتسم ببعض هذه الصفات.
ولكن هناك
مفارقة في تفسير ناغل ونيومان لنتيجة غودل. فقد تمثل عبقرية غودل العظيمة — كما
سيلاحظ قراء ناغل ونيومان — في إدراكه أن الأعداد تشكل وسيطًا كونيا لتضمين
الأنماط من أي نوع، ولهذا السبب يمكن للعبارات التي تبدو أنها تتعلق بالأعداد فقط
أن ترمز في الواقع إلى عبارات تتعلق بعوالم أخرى من الخطاب. بعبارة أخرى، رأى غودل
ما هو أبعد من المستوى السطحي لنظرية الأعداد، فأدرك أن الأعداد يمكن أن تمثل أي
نوع من البنية. والقفزة الغودلية المماثلة بالنسبة للحواسيب تتمثل في إدراك أن
الحواسيب، بما أنها في الأساس تعالج الأعداد، وبما أن الأعداد هي وسيط كوني لتضمين
الأنماط من أي نوع، فإن الحواسيب قادرة على التعامل مع الأنماط العشوائية، سواء
كانت منطقية أو غير منطقية، متسقة أو غير متسقة. باختصار، عندما يبتعد المرء عن
آلاف الأنماط المتشابكة من الاعداد، يستطيع تمييز أنماط من مجالات أخرى، تمامًا
كما يرى الشخص الذي ينظر إلى شاشة مليئة بالبكسلات وجهًا مألوفًا دون أن يرى أي 1
أو 0. لقد انتشرت هذه النظرة الغودلية للحواسيب في العالم الحديث لدرجة أن الركيزة
الرقمية لها أصبحت شبه غير مرئية، إلا للمتخصصين. يستخدم الناس العاديون الحواسيب
بشكل روتيني لمعالجة النصوص، ولعب الألعاب، والتواصل، والرسوم المتحركة، والتصميم،
والرسم، وكل هذا دون أن يفكروا في العمليات الحسابية الأساسية التي تجري في
الأعماق. يعتمد علماء الإدراك على الأجهزة الحسابية لحواسيبهم لتكون خالية من
الأخطاء وغير مبدعة، فيعطون حواسيبهم "مجموعات ثابتة من التوجيهات"
لنمذجة الأخطاء والإبداع البشري. لا يوجد ما يمنع من أن تتم نمذجة عمليات التفكير
الرياضي الإبداعي باستخدام الحواسيب، على الأقل من حيث المبدأ. لكن في خمسينيات
القرن الماضي، كانت مثل هذه الرؤى لإمكانات الحواسيب صعبة التصور. ومع ذلك، فإن من
المفارقات أن الاستنتاج الفلسفي الأساسي في كتاب مخصص للاحتفاء برؤية غودل القائلة
بأن الأعداد تتغلب على عالم الأنماط بشكل عام، يعتمد على تجاهل هذه الرؤية،
وبالتالي يفشل في إدراك أن الحواسيب قادرة على تقليد أنماط من أي نوع يمكن تصوره —
بما في ذلك الأنماط الإبداعية للعقل البشري.
سأختتم
بكلمات قليلة عن السبب الذي جعلني أسمح لنفسي بإدخال بعض التعديلات الفنية على هذا
النص الكلاسيكي. على الرغم من أن الكتاب نال استحسان النقاد في أغلب الأحيان، إلا
أن هناك بعض النقاد الذين شعروا أنه لم يكن دقيقًا بما فيه الكفاية في بعض
المواضع، وأنه قد يُعرِّض قراءه للتضليل. في المرة الأولى التي قرأت فيها الكتاب،
لم أكن أدرك أيًا من هذه العيوب، ولكن بعد سنوات عديدة، وعندما قرأت كتاب 'برهان
غودل' وأنا أهدف إلى شرح هذه الأفكار بنفسي بأكبر قدر من الدقة والوضوح، تعثرت في
بعض المقاطع في الفصل السابع، وأدركت بعد فترة أن هذا التعثر لم يكن خطئي بالكامل.
لقد حزنت عندما أدركت أن هذا الكتاب المحبوب يحتوي على بعض العيوب، ولكن من الواضح
أنه لم يكن بوسعي فعل شيء حيال ذلك. لكن من الغريب أنه في هوامش نسختي، قمت بتدوين
كل الأخطاء التي اكتشفتها بعناية، مشيرًا إلى كيفية تصحيحها ـ وكأنني توقعت في وقت
ما أن أتلقى رسالة إلكترونية من دار نشر جامعة نيويورك تسألني عما إذا كنت مستعدًا
لكتابة مقدمة لطبعة جديدة من الكتاب.
لا بد أنني
من بين القراء الذين تأثروا بعمق بهذا العمل الصغير الذي كتبه إرنست ناغل وجيمس
نيومان، ولهذا السبب، وبعد أن أتيحت لي الفرصة، أشعر أنه من واجبي أن أُصقل
جوهرتهما وأمنحها بريقًا جديدًا يتناسب مع الألفية الجديدة. وأود أن أصدق أنه من
خلال هذا، لا أخون مرشديّ المحترمين، بل أقدم لهما تكريماً، باعتباري تلميذًا
متحمسًا ومخلصًا.
مركز البحوث حول المفاهيم والإدراك
جامعة
إنديانا، بلومنغتون
0 التعليقات:
إرسال تعليق