في المقهى العتيق، حيث الجدران محملة برائحة القهوة القديمة والذكريات المخبأة بين الكتب القديمة، قابلت اليوم الرجل ذا الأسنان المثرمة الذي لا يأبه للغير، وينسى علبة سجائره كلما غادر المكان. كان منغمسا في قراءة كتاب...لم أتمكن من منع نفسي من إلقاء نظرة خاطفة على عنوانه : "ضد المنهج".
كما لم لم أتمكن من منعها من التفكير في الأمر، ماذا يعني "ضد المنهج"؟ وما "المنهج" أصلا؟ هل هو ضد ما تعلمناه عن العلم، عن التفكير المنظم؟ أيمكن أن تكون أفكار هذا الرجل معاكسة تمامًا لما نعرفه؟ أعني بالرجل صاحب الكتاب وليس ذي الأسنان المثرمة.
جلست إلى طاولته الصغيرة بجانب النافذة، حيث الضوء الباهت يتسلل عبر الزجاج المتسخ، وحيث الهواء محمل برائحة القهوة القديمة. كانت ملامحه تحمل شيئًا من الحكمة غير المستقاة من الكتب، لكنه، وكأنه غريب عن الزمن، كان يتحدث بلغة تختلف عن تلك التي نتداولها يوميا.
دون سلام ولا مقدمات كعادتي معه، قال: هل تعرف، يا صديقي، أن العقل البشري لا يمكن أن يحدّه شيء؟" قالها وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء، محاولًا إخفاء ابتسامته الماكرة. "أحيانًا أظن أننا نمضي حياتنا ونحن نبحث في أماكن ضيقة بينما توجد أسرار عظيمة في الزوايا التي نتجنبها."
سألته، غير متأكد إن كان يقصد أنني أبحث عن الأسرار في الزوايا التي تتراكم فيها أكواب القهوة الفارغة: "ماذا تعني؟"
ابتسم، وكأنه توقع سؤالي السخيف، ثم أضاف: "خذ على سبيل المثال غودل،إنه ....، عفوا، هل تعرفه؟"
• سمعتُ عنه، أو لأقل قرأتُ عنه، لكنني لم أفهم الكثير. هل هو الرجل الذي يعتقد أن كل شيء ناقص في حياتنا؟ أظنني سمعتُ شيئًا عن ذلك في محاضرة كانت تدور حول اليأس من الفهم المطلق.
قال: "نعم، هو ذاك الذي قال إن هناك دائمًا أشياء لا يمكننا إثباتها. هو الذي اعتقد أن المنطق ليس كافيًا لاحتواء كل شيء. لكن ماذا لو كان هذا المنطق نفسه هو ما يعيقنا؟"
كنت صامتًا ، متأملًا جملته. ثم سألت: "إذن، هل تقصد أنه كان يرى أن هناك حدودًا لما يمكن معرفته؟"
أجاب بجدية: "نعم، ولكنه، في الوقت ذاته، كان يفتح لنا أبوابًا جديدة للفهم. غودل كان يريد أن نرى أن هناك أسئلة لا يمكن الإجابة عليها باستخدام القواعد المعروفة. كان يطالبنا بأن نفتح عقولنا لما هو أبعد من المنطق."
قلت : "لكن هذا يبدو وكأن شخصًا آخر قد قال به، أو قال شيئًا مشابهًا... نسيت اسمه، لكن أتذكر أنه كان يبدأ بحرف الفاء، وكان يتحدث عن حدود المعرفة أيضًا..."
ابتسم الرجل ذو الأسنان المثرمة، وقال: "نعم، بول فييرابند... ولمس الكتاب بكفّه، الفيلسوف الذي كان يرى أن العلم لا يجب أن يكون محكومًا بقواعد صارمة. كان يعتقد أن الفوضى جزء من عملية البحث، وأنه يجب علينا أن نخضع للحظة الفوضى كي نصل إلى معرفة حقيقية."
قلت، وقد تملكني الفضول: "هل في هذا تشابه بينه وبين غودل؟"
قال وهو يحدق في فنجانه الفارغ: "أعتقد أنهما يتفقان على أن هناك حدودًا لما يمكن معرفته، لكن غودل كان يتحدث عن حدود منطقية، بينما فييرابند كان يتحدث عن حدود علمية تتطلب منا أن نُخرج أنفسنا من الصندوق، أو بالأحرى نكسر الصندوق نفسه."
"ولكن أليس ذلك تهورًا؟" قلت، متهكمًا. "ألن يؤدي بنا إلى الفوضى المطلقة؟"
ضحك الرجل ذو الأسنان المثرمة وقال:
"ليس فوضى بمعناها التقليدي، بل فوضى مثمرة. مثلما هو الحال عندما يبدو كل شيء مرتبًا بدقة، ثم نكتشف أن هذا الترتيب هو بالذات ما يعيق تدفق الأفكار. غودل كان يحذرنا من التورط في حدود المنطق، بينما فييرابند كان يدعونا لكسر القواعد والبحث عن طرق جديدة تتجاوز تلك الحدود."
في تلك اللحظة، اقترب النادل، رجل في منتصف العمر تبدو على وجهه علامات التعب، وسألني بهدوء:
"ماذا تشرب؟"
أجبته دون تفكير:
"قهوة براس ."
توجه نحو الطاولة المجاورة. وبينما كان يبتعد، أشار الرجل ذو الأسنان المثرمة نحوه قائلا:
"أتعلم؟ هذا النادل هو مثال بسيط لكنه قوي. في البداية، كل شيء يبدو واضحًا: سؤال وجواب. طلب وقائمة. مثلما نظن أن المعرفة تأتي في صورة محددة وسهلة. لكن ماذا لو طلبت شيئًا غير موجود في القائمة؟ كوب شاي بنكهة الورد، أو شرابًا قد سمع به لأول مرة؟ ماذا سيكون رد فعله؟"
فكرت قليلاً ثم أجبت:
"ربما سيقول إنه غير متوفر، أو سيحاول تقديم شيء مشابه."
هز الرجل رأسه : "بالضبط! إنه يتبع نظامًا. النادل يمثل المنهج الذي يقتصر على ما هو مألوف ومحدد. وإذا أخرجته من هذا الإطار، قد يشعر بالعجز أو الحيرة. الآن تخيل أن حياتنا كلها تعمل بهذه الطريقة. كلما واجهنا فكرة جديدة أو سؤالًا مختلفًا، نحاول فرض قواعدنا القديمة عليه، بدلًا من تقبل الفوضى الناتجة عن شيء جديد وغير مألوف. هذا ما قصده فييرابند عندما قال إن الفوضى ضرورية للإبداع."
شعرت أنني بدأت أفهم فكرته، لكن لم أستطع مقاومة السؤال: "وماذا عن غودل؟ كيف يرى هذا الوضع؟"
ابتسم وكأنه كان ينتظر هذا السؤال :"غودل يرى الأمر من زاوية أخرى. النادل، كرمز للعقل البشري، قد لا يستطيع استيعاب طلب خارج عن المألوف لأنه محكوم بنظام معين. وهذا ما قاله غودل في نظريته عن عدم الاكتمال: أي نظام منطقي محكم، مهما كان قويًا، سيواجه دائمًا أسئلة لا يستطيع الإجابة عليها. لا لأن الإجابة غير موجودة، بل لأن النظام نفسه غير قادر على الوصول إليها."
هنا عاد النادل، وضع القهوة على الطاولة وقال: "ها هي قهوتك، هل تحتاج إلى شيء آخر؟"
نظرت إليه للحظة، وكأنني أبحث عن إجابة داخل عينيه. ثم قلت له مازحًا: "لو طلبت منك قهوة بنكهة اللافندر، ماذا كنت ستفعل؟"
ابتسم النادل ابتسامة ودودة وقال: "سأبحث عن طريقة لأحقق طلبك، حتى لو لم يكن في القائمة. أحيانًا، علينا أن نكون مبدعين في عملنا."
ضحك الرجل ذو الأسنان المثرمة وقال لي: "تخيل لو كان كل شيء في الحياة بهذه البساطة! غودل كان سيقول: 'حتى لو حاولت، ستظل هناك حدود'. وفييرابند كان سيجيب: 'الحياة نفسها تجاوز للحدود'."
تأملت في كلمات النادل ثم التفت إلى الرجل وقلت: "وكيف نتجاوز هذه الحدود إذن؟"
قال بهدوء: "بالتشكيك في كل شيء، وبقبول أن بعض الأسئلة قد لا تملك إجابات، وأن هذا ليس فشلًا بل دليل على أن الطريق مفتوح دائمًا لاكتشاف جديد."
سكتُ لبرهة، ثم قلت: "لكن هذا ليس جديدًا. ألا يتحدث الجميع عن حدود الفهم؟"
قال الرجل ذو الأسنان المثرمة، وهو ينظر إلي بنظرة عميقة: "نعم، قد يكون الجميع يتحدث عن هذا. لكن غودل كان يعطينا الأدوات لفهم تلك الحدود بشكل دقيق. كان يضع الأصبع على النقطة التي يصعب تحديدها. هذه هي السمة المميزة له. لا مجرد حديث، بل إثبات رياضي أن هناك حدودًا لمنطقنا."
قلتُ له، محاولًا فهم الصورة بأكملها: "إذاً أنت تقول إن ما يهم ليس أننا ندرك حدود المعرفة، بل كيف ندرك هذه الحدود؟"
أجاب، وهو يلوح بيده في الهواء كما لو كان يشير إلى شيء بعيد: "بالضبط! غودل وفر لنا الخريطة التي تُظهر لنا أين توجد الحواجز. أما فييرابند، فكان يقول: 'دعونا لا نأخذ هذه الحواجز كأمر مسلم به، دعونا نبحث في طرق غير تقليدية لنعيش المعرفة.'"
"فجأة، ودون مقدمات، قام الرجل ذو الأسنان المثرمة و غادر المكان، ناسياً علبة سجائره كالمعتاد." بقيتُ جالسًا، غارقًا في أفكاره، أراقب المكان في صمت، وكأن حديثه لم يكن سوى حلمٍ عابر."
0 التعليقات:
إرسال تعليق