القسم الثاني
سنوات برينسيتون !
"أنت بالتأكيد تمزح يا سيد فاينمان!" (2)
كنا نرتدي ثياب التخرج كل
ليلة أثناء تناول العشاء. في الليلة الأولى، أصابني ذلك برعب شديد، لأنني لم أكن
أحب الأجواء الرسمية. لكنني سرعان ما اكتشفت أن هذه الثياب كانت ميزة رائعة. كان
بإمكان الشباب الذين كانوا يلعبون التنس أن يسرعوا إلى غرفهم، يلتقطوا ثياب
التخرج، ويرتدوها بسرعة. لم يكن هناك حاجة لتغيير ملابسهم أو الاستحمام. لذا، كانت
الأذرع العارية والقمصان وكل شيء آخر تحت الثياب أمرًا مألوفًا. علاوة على ذلك، كانت هناك قاعدة غريبة: لا تنظف ثوبك أبدًا! بهذه الطريقة،
يمكنك بسهولة معرفة الفرق بين طالب في السنة الأولى، وآخر في السنة الثانية، وآخر
في السنة الثالثة... وآخر يشبه الخنزير! لم يكن يُسمح لك بتنظيف الثوب أو حتى
إصلاحه، لذلك كان طلاب السنة الأولى يرتدون ثيابًا جميلة ونظيفة نسبيًا، أما في
السنة الثالثة فكان الثوب يتحول إلى شيء يشبه الورق المقوى على الأكتاف، تتدلى منه
قطع ممزقة.
لذا عندما وصلت إلى برينستون، حضرت حفل الشاي عصر يوم
الأحد، ثم تناولت العشاء في ذلك المساء مرتديًا الثوب الأكاديمي في
"الكلية". لكن صباح الاثنين، كان أول ما رغبت في فعله هو زيارة جهاز
السيكلوترون.
عندما كنت طالبًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا،
قاموا ببناء سيكلوترون جديد، وكان مذهلًا بحق! كان السيكلوترون نفسه موجودًا في
غرفة، بينما كانت أدوات التحكم في غرفة منفصلة. التصميم كان رائعًا؛ الأسلاك ممتدة
من غرفة التحكم إلى السيكلوترون عبر أنابيب، ولوحة التحكم كانت مليئة بالأزرار
والعدادات. كان بالفعل ما يمكن أن أسميه "سيكلوترون مطلي بالذهب".
قرأت العديد من الأبحاث حول تجارب السيكلوترون، لكن لم
يكن هناك الكثير منها من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ربما لأنهم كانوا في بداية
العمل عليه. بالمقابل، كانت هناك نتائج كثيرة من أماكن مثل كورنيل، وبيركلي، وقبل
كل شيء، برينستون. لذا، كان ما أردت رؤيته بشدة، وما كنت أتطلع إليه حقًا، هو
سيكلوترون برينستون. لا بد أنه شيء مذهل.
إذن، أول شيء فعلته صباح
يوم الاثنين هو الذهاب إلى مبنى الفيزياء وسؤالهم: "أين السيكلوترون؟ في أي
مبنى؟"
إنه في الطابق السفلي، في
القبو - في نهاية الممر."
في القبو؟ كان المبنى قديمًا،
ولم أكن أعتقد أن هناك مساحة في القبو لجهاز سيكلوترون. مشيت إلى نهاية الممر،
فتحت الباب، وفي غضون عشر ثوانٍ فقط، أدركت لماذا كانت برينستون هي المكان المناسب
لي—أفضل مكان لإتمام دراستي.
في تلك الغرفة، كانت الأسلاك متشابكة في كل مكان! المفاتيح تتدلى
من الأسلاك، ومياه التبريد تقطر من الصمامات، والغرفة مليئة بالمعدات المبعثرة في
العراء. الطاولات المكدسة بالأدوات كانت منتشرة في كل زاوية؛ كانت فوضى عارمة بكل
معنى الكلمة. كان السيكلوترون بأكمله موجودًا في غرفة واحدة، وكانت الفوضى شاملة
ومطلقة!
لقد
ذكرني بمختبري في المنزل. لم يحدث أن ذكرني أي شيء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
بمختبري في المنزل من قبل. وفجأة أدركت لماذا كانت برينستون تحقق نتائج مبهرة:
لأنهم كانوا يعملون مباشرة مع الأداة. لقد قاموا ببنائها بأنفسهم؛ كانوا يعرفون
مكان كل جزء فيها، ويفهمون تمامًا كيف تعمل، ولم يكن هناك مهندس خارجي مشارك—ربما
باستثناء واحد كان يعمل معهم أيضًا.
كان الجهاز أصغر بكثير من السيكلوترون الموجود في معهد
ماساتشوستس للتكنولوجيا، و"مطلي بالذهب"؟ بل كان العكس تمامًا! عندما
احتاجوا إلى إصلاح الفراغ، كانوا يضعون عليه قطرات من مادة الجليبتال، لدرجة أن
الأرضية كانت مليئة ببقعها. كان ذلك مذهلًا! لأنهم كانوا يعملون على الأداة
بأنفسهم، ولم يكن عليهم الجلوس في غرفة منفصلة فقط للضغط على أزرار التحكم! (على فكرة، لقد حدث
حريق في تلك الغرفة بسبب الفوضى العارمة التي كانت تعم المكان—عدد كبير جدًا من
الأسلاك—مما أدى إلى تدمير السيكلوترون بالكامل. ولكن من الأفضل ألا أخوض في
تفاصيل ذلك!)
(عندما وصلت إلى كورنيل، ذهبت لإلقاء
نظرة على السيكلوترون الموجود هناك. لم يكن هذا السيكلوترون يتطلب غرفة بالكاد:
فقد كان قطره لا يتجاوز ياردة واحدة، أي حجم الجهاز بالكامل. كان أصغر سيكلوترون
في العالم، ومع ذلك حققوا نتائج مذهلة باستخدامه. كان لديهم مجموعة متنوعة من
التقنيات والحيل المبتكرة. إذا أرادوا تعديل شيء ما في الأجزاء التي تُعرف
بـ"الـ
D's"—وهي نصف الدوائر على شكل حرف D التي تدور حولها الجسيمات—كانوا يستخدمون مفك براغي لإزالة هذه
الأجزاء يدويًا، يصلحونها، ثم يعيدون تركيبها بسهولة. في برينستون، كان الأمر أكثر
تعقيدًا بكثير، أما في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، فقد كان عليك استخدام رافعة متحركة على السقف، تخفض الخطافات،
وتتعامل مع عملية مرهقة للغاية.)
لقد تعلمت الكثير من
الأمور المختلفة من مدارس متعددة. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مكان رائع جدًا؛
ولا أحاول التقليل من شأنه. كنت مغرمًا به بشدة. لقد طور لنفسه روحًا خاصة، لدرجة
أن كل شخص ينتمي إليه يشعر بأنه المكان الأكثر روعة في العالم—وكأنه مركز التطور
العلمي والتكنولوجي في الولايات المتحدة، وربما في العالم بأسره. إنه أشبه بنظرة
أحد ساكني نيويورك إلى نيويورك: يغفلون عن بقية البلاد.
ورغم أنك قد لا تحصل هناك على شعور جيد بالتوازن أو النسبة، فإنك
تكتسب إحساسًا قويًا بالانتماء، وتشعر بالدافع والرغبة في الاستمرار. تشعر وكأنك
شخص مختار بعناية، ومحظوظ لأنك جزء من ذلك المكان.
كان معهد ماساتشوستس
للتكنولوجيا مكانًا رائعًا، لكن هات سلاتر كان محقًا عندما نصحني بالذهاب إلى
مدرسة أخرى لإكمال دراساتي العليا. وغالبًا ما أقدم النصيحة ذاتها لطلابي: تعرّفوا
على بقية العالم. فالتنوع يستحق التجربة.
ذات مرة، أجريت تجربة في
مختبر السيكلوترون بجامعة برينستون، وكانت نتائجها مذهلة. هناك مسألة في كتاب عن
الديناميكا المائية كانت موضع نقاش بين جميع طلاب الفيزياء. المسألة كالتالي: لديك
مرش حديقة على شكل حرف S — أنبوب مكوّن على شكل S مثبت على محور دوران—والماء يتدفق منه بزاوية قائمة على المحور، مما يجعله
يدور في اتجاه محدد. الجميع يعرف الاتجاه الذي يدور فيه: يبتعد عن تدفق الماء
الخارج. لكن السؤال هو: إذا كان لديك بحيرة أو حمام سباحة—مصدر كبير للماء—وقمت
بوضع المرش تحت الماء بالكامل، وبدلًا من ضخ الماء للخارج، بدأت في امتصاصه
للداخل، في أي اتجاه سيدور؟ هل سيدور بنفس الطريقة التي يدور بها عندما يضخ الماء
في الهواء، أم أنه سيدور في الاتجاه المعاكس؟
الإجابة تبدو واضحة تمامًا
للوهلة الأولى. المشكلة كانت أن بعض الأشخاص يعتقدون أنها واضحة تمامًا في اتجاه
معين، بينما يرى آخرون أنها بنفس الوضوح ولكن في الاتجاه المعاكس. وهكذا، أصبح
الجميع يناقشون الأمر بحماس.
أتذكر أنه خلال إحدى الندوات أو جلسات الشاي، توجه أحدهم إلى
البروفيسور جون ويلر John Wheeler
وسأله: "في رأيك، في أي اتجاه تدور؟"
أجاب ويلر: "بالأمس،
أقنعني فاينمان أنها تدور للخلف. واليوم، أقنعني بنفس المهارة أنها تدور في
الاتجاه الآخر. لا أدري ما الذي سيقنعني به غدًا!"
سأقدم لك حجة تجعلك تظن أن
الرشاش يتحرك في اتجاه معين، ثم حجة أخرى تجعلك تظن أنه يتحرك في الاتجاه المعاكس،
حسنًا؟
الحجة الأولى تقول: عندما
تمتص الماء، فإنك تسحب الماء باستخدام الفوهة، وبالتالي سيتحرك الرشاش إلى الأمام،
باتجاه الماء الداخل.
ولكن يأتي شخص آخر ويقول:
"لنفترض أننا أمسكنا الرشاش في مكانه وسألنا: ما نوع عزم الدوران المطلوب
لإبقائه ثابتًا؟ في حالة خروج الماء، نعلم جميعًا أنه يجب الإمساك به عند الجانب
الخارجي من المنحنى بسبب القوة الطاردة المركزية الناتجة عن دوران الماء حول المنحنى.
الآن، إذا دار الماء حول نفس المنحنى ولكن في الاتجاه المعاكس، فإنه سيولد نفس
القوة الطاردة المركزية باتجاه الخارج. وبالتالي، الحالتان متماثلتان، وسيدور
الرشاش بنفس الاتجاه سواء كنت تضخ الماء إلى الخارج أو تمتصه."
بعد تفكير طويل، توصلت أخيرًا إلى الإجابة، وقررت إجراء تجربة لإثباتها.
في مختبر السيكلوترون
بجامعة برينستون، كانت لديهم قارورة كبيرة جدًا – زجاجة ماء ضخمة. بدت لي مثالية
لإجراء التجربة. أخذت قطعة من أنبوب نحاسي وقمت بثنيها على شكل حرف S. ثم قمت بحفر ثقب في
منتصفها، وأدخلت قطعة من خرطوم مطاطي، ومررته عبر ثقب في سدادة فلينية وضعتها في
أعلى الزجاجة.كانت السدادة تحتوي على ثقب آخر،
أدخلت فيه قطعة أخرى من خرطوم مطاطي وربطتها بمصدر ضغط الهواء في المختبر. عند نفخ الهواء في الزجاجة، كنت أستطيع دفع الماء إلى
داخل الأنبوب النحاسي وكأنني أمتصه. الأنبوب
على شكل حرف S لم يكن يدور حول نفسه، ولكنه كان
يلتوي( بسبب مرونة الخرطوم المطاطي). خطتي كانت قياس سرعة تدفق الماء من خلال قياس
المسافة التي يندفع بها الماء من أعلى الزجاجة.
أعددت كل شيء، وشغّلت مصدر
الهواء، وفجأة صدر صوت "بوف!". ضغط الهواء دفع السدادة الفلينية خارج
الزجاجة. قمت بتثبيتها بإحكام شديد حتى لا تخرج مجددًا.
والآن كانت التجربة تسير بشكل جيد. الماء كان يتدفق، والخرطوم
كان يلتوي، فقررت زيادة الضغط قليلاً لأن السرعة الأعلى تعني قياسات أكثر دقة. قمت
بقياس الزاوية بدقة شديدة، ثم قست المسافة، وزدت الضغط مرة أخرى. وفجأة، انفجر كل
شيء! الزجاج والماء تطايرا في جميع أنحاء المختبر.
أحد الحاضرين الذين جاءوا لمشاهدة التجربة تبلل تمامًا واضطر إلى
العودة للمنزل لتغيير ملابسه (وكان من حسن حظه أنه لم يُصب بجروح من الزجاج
المتطاير). أما صور غرفة السحب التي أُخذت بعناية باستخدام السيكلوترون، فقد تعرضت
كلها للتلف بسبب الماء. لكن بطريقة ما، كنت بعيدًا بما يكفي، أو ربما في زاوية
محمية، فلم أتعرض سوى للقليل من الماء.
لكن ما لن أنساه أبدًا هو الطريقة التي اقترب بها الأستاذ العظيم
ديل ساسو، المسؤول عن مختبر السيكلوترون، وقال لي بصرامة: "تجارب الطلاب
المستجدين يجب أن تُجرى في مختبر الطلاب المستجدين!"
0 التعليقات:
إرسال تعليق