منهج علمي
غايته بلوغ المعرفة القصوى
حسن عجمي
باحث وأستاذ الفلسفة الإسلامية والألسنيات في جامعة ولاية
أريزونا ـ أميركا
الاستغراب العدد 01 خريف 2015
في
هـذا البحث من «عالم المفاهيم» يطرق الباحـث حسـن عجمـي مفهوما مسـتحدثاً لايـزال
قيـد التداول المحدود ضمن بيئات فكريـة وأكاديميـة متخصصـة في الغـرب، وكذلـك في
بعـض البيئـات المهتمـة بالفكـر والفلسـفة السياسـية المعـاصرة في العالمـين
العربي والإسـلامي.
مفهـوم
«السـوبر حداثـة» أو مـا ذهـب إليـه بعـض المفكريـن فأطلقـوا عليـه تـارة تسـمية
الميتا ـ حداثـة وطوراً «الحداثـة الفائقـة.» هـو ما سـيتناوله الباحث بجلاء مقدماتـه
ومبانيـه العلميـة والفلسفية.
المعلـوم
أن لهـذا المفهـوم ارتباطـاً وثيقـاً بمـا سـبقه من مفاهيـم ومصطلحـات تتعلـق
بالحداثة ومـا بعدهـا والتطـورات المعرفيـة التـي رافقتهـا عـلى امتـداد قـرون
خلـت. ولـذا سـنرى كيـف أن الباحـث لجـأ إلى المـرور علـى تعاريـف الحداثـة في
سـياق تأصيلـه لمفهـوم «السـوبر حداثة»
موضــوع هــذا البحــث. وهــو بحــث جديــر بالاهتمام، والنقــد والتمحيــص مــن
قبــل النخــبّ الفكريـة، لمـا يحمـل في طياتـه مـن حالـة الشـك الصارخـة وعـدم
اتخـاذه موقفـاً أمام صـدق القضايــا أو كذبهــا، حيــث يجعــل القضايــا كلّ ّ
هــا ممكنــة جــراء قبولــه التناقــض الداخلي. ولاّ نعـدم الـرأي لـو قلنـا إن
نظريـة السـوبر حداثـة هـي أقـرب إلى أن تكـون سفسـطة متطـورة، طورهـا المنـاخ
اللامعـرفي الحديـث والانفلات الفكـري المنقلـب حتـى عـلى نفسـه.. (المحرر)
الحداثــة ـ
عـلى ما هـو شائع ـ هـي المذهـب المؤمن بوجـود منهـج عقـلي فلسفي أو علمي مقبول
ويوصلنا إلى المعرفـة؛ وبالتالي هـي المؤمنة بتأصيل المعارف. وإذا كانـت ما بعـد
الحداثـة، كما يقول محمـد أركون، هي الاعتقاد باسـتحالة تأصيل أي معرفـة أكانـت
دينية أم علمية[1] فـإن الحداثـة ليسـت
سـوى الإيمان بإمكانيـة تأصيل المعارف. أما آخرون فيذهبون إلى أن ما بعـد الحداثـة
هـي تلك المتصفـة بمبدأ اللاحتمية المطابـق أوّ الشـبيه بمبدأ اللاحتمية في
ميكانيـكا الكم. وبهـذا المعنـى، يتصف مذهـب ما بعـد الحداثـة بالذاتيـة،
والتفكيكية، والتعدديـة، والاختـلاف، والعشـوائية... الخ [2].
أما السوبر
حداثـة فهـي المذهـب الـذي يسـتخدم مفاهيـم ومناهـج ما بعـد الحداثـة مـن أجل
الوصـول إلى الهدف الأساسي للحداثــة، ألا وهو المعرفة. مثال ذلـك محاولاتّ العلماء
والفلاسـفة في تفسير ميكانيكا الكم. بالنسـبة إلى ميكانيكا الكم، مبدأ اللاحتمية أو
مبـدأ اللامحدد يحكم العالم. يقـول هذا المبدأ انه من غير الممكن تحديد مكان الجسـيم
وسرعتـه في آن معاً. وقـد انشـغل العديـد مـن العلماء وما زالوا منشـغلين بتفسير هذا
المبدأ. بعضهم يفسره على أساس أن الوعي الإنساني يحدد ما يحدث في عالم الجسيمات،
وبعضهم الآخر يفسره مـن خلال نفـي وجود هوية الجسـيمات بحيث تصبح غـير مختلفــة
عـن بعضها بعضا الــخ. نجـد هنا اســتخدام مفهوم اللاحتمية أو اللامحدد وهو مفهوم
ما بعـد حداثـوي من أجل الوصول إلى المعرفة وهو الهـدف الحداثـوي. مـن هنا،
السـوبر حداثـة تسـتغل مـا بعـد الحداثـة للوصـول إلى أهـداف الحداثـة.
أما علم
الأفكار فهو جزء أساسي من السوبر حداثة. بما أن علم الأفكار يدرس الأفكار الممكنة
وكيفية تطبيقها في ميادين مختلفـة كأن يطبق مبدأ اللامحدد على المجتمع والتاريـخ،
فهـو بذلـك يسـتخدم مفاهيم ما بعـد الحداثـة كما تفعل السوبر حداثـة. ويسـعى علم
الأفكار نحو التوصل إلى معرفة العوالم الممكنة التي قد تشبه عالمنا الواقعـي والتي
تضمه. وبما أن الحداثة تهـدف إلى معرفـة عالمنا الواقعي، فإن هدف هذه الأفكار
يتطابق أحيانا مع هدف السوبر حداثة. كل هذا يرينا أن علم الأفكار يستخدم ما بعد
الحداثة من اجل تحقيق هدف الحداثة بشكل غير مباشر. من هنا يشكل علم الأفكار جزءاً
أساسياً من السوبر حداثة.
لا يهـدف
علـم الأفـكار إلى معرفـة العالم الواقعـي بشكل مباشر بـل يـدرس العوالم الممكنة. وبذلـك
يختلف عن الحداثة لأنها تُعنى بدراسة الواقع والحصول عـلى معرفة الواقع. كما
أن علم الأفكار لا يسـعى إلى نقد المعرفة ورفضها كما تفعل ما بعـد الحداثة لأن علم
الأفكار يهـدف إلى الحصول على المعرفـة بالعوالم الممكنة؛ فهـو يبني تلــك المعرفـة.
وبذلـك يختلـف علم الأفكار عـن ما بعـد الحداثـة. الآن، بما أن علم الأفكار يختلف
عن كل من الحداثة وما بعد الحداثة فهــو يشكل مذهبا متكاملاً في السوبر حداثـة
التي تحاول الخروج من مفهومي الحداثـة وما بعدها.
[1]ـ انظر: محمد
أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. ترجمة وتعليق: هاشم صالح. الطبعة الاولى
.1999دار الساقي. ص.9
[2[- Hans Bertens: Te Idea of Te Postmodern. Routledge. 1995.
[2[- Hans Bertens: Te Idea of Te Postmodern. Routledge. 1995.
علــم
الأفــكار هــو العلــم الــذي يــدرس الأفــكار الممكنــة. أي أن موضوعــه هــو
دراســة المذاهـب الفكريـة كافـة (الفلسـفية والعلميـة والاجتاعيـة والأدبيـة
الـخ) شرط أن تكـون هـذه المذاهــب لم تنشــأ بعــد. فهدفــه الأولي هــو بنــاء
المذاهــب والأفــكار الجديــدة ومحاولــة الدفــاع عنهــا ورؤيــة فضائلهــا
(ونواقصهــا إذا أمكــن) شرط أن لا يعترهــا المؤلــف هــي حقــا مذاهبـه
وأفـكاره. بمعنـى آخـر، علـم الأفـكار يحـاول أن يتوصـل إلى تحديـد مجموعـة
الأفـكار والمذاهـب الفكريـة التـي مـن الممكـن ان توجـد أو التـي مـن الممكـن أن
يفكـر بهـا فـرد مـا في عـالم مـا أو التـي مـن الممكـن ان تكـون صادقـة في عـالم
مـا.
ما الفائدة
من وراء هذا العلم وما وظيفته؟
يُساهم هذا
العلم في إعطاء العالم حجـة معرفية لكـي يكتـب وينشر ما فكر به رغم انه غـير مقتنـع
كلّيّاً ّ بما كتب أو فكر به. هذا لأن هذا العلم يدرس الأفكار الممكنة والتي قد لا
يعتنقها أو قد لا يؤمن بها مؤلفها أو أي فرد آخر. من هنا، لايحتاج العالم إلى قضاء
مزيد من الوقت لكي تحدث التجارب والخبرات الداعمة لفكرته هذه أو تلك. في الآن ذاته عندما نحدد الأفكار الممكنة نساهم في البحث الفلسفي
والعلمي؛ فإذا ما وضعنا أمامنا معظم الأفكار التي من الممكن التفكير فيها قد يختار
العالم مذهبا منها ويطوره ما يساهم في بناء المعرفة والبحث العلمي. هذه بعض الحجج
البراغماتية وراء خلق هذا العلم. والحجة الأساسية الداعمة لهذا العلم هي انه يتجنب
المذهب الشيء؛ فحتى لو كان الشك صادقـً ما زلنا قادرين بحق دراسة ما يمكن أن يكون
صادقا.
القدرة
التفسيرية
بالإضافـة
إلى ذلك، فإن الحجـة المعرفية وراء هذا العلم، أي الوظيفة المعرفية لهـذا العلم،
تكمن في أنـه يملك قدرة تفسيرية ناجحة. فهو قادر على أن يفسر بعض الظواهرّ من هنا،
فإن علم الأفكار يشكل نظرية أو مذهبا قائما بذاته، لديه القدرة على ان يفسر لماذا
نشأت بعض الأفكار والمذاهب في الماضي، كما لديه القدرة على التنبؤ بالأفكار
والمذاهب التـي قد تنشأ في المسـتقبل. لا نستطيع البرهنة على هذا الدور سوى من
خلال تقديم مثل عملي على ذلك. سنختار فكرة اللامحدد Indeterminatedكميدان
لعملنا.
وجدت فكرة
اللامحـدد في الـتراث الفكري الغربي. نجد أن كانط طبقها على العقل والإدراك، بينما
هيغل طبقها على الوجود[1]فلا عجب من انتقال هذه
الفكرة، التي شغلت التراث الغربي، إلى العلم.
[1[ ـSee
Kant: Critique of pure Reason & Hegel: Phenomenology of Spirit.
وبالفعل هذه
الفكرة قــد تشـخصت في ميكانيكا الكم التي تقول انه من غير المحدد سرعة الجسيم
ومكانه. اعتماداً على انتشار فكرة اللامحدد، ومن منطلق علم الأفكار كونه يدرس
الأفكار التي من الممكن خلقها، نسـتطيع ان نتنبأ بأن فكرة اللامحدد سوف تطـق في
علم الاقتصاد. بالفعل لقد طبقت مؤخراً[2],هذا دليل على صـدق هذا التنبؤ، وبذلك هو
دليل على صدق علم الأفكار وقدرته التفسيرية، فلقد فسر ظاهرة معينة ألا وهي لماذا
نشأ مذهب جديـد في علم الاقتصاد يدعي دراسة الاقتصاد من خلال فكرة اللامحـدد.
مــن هــذا
المنطلــق بالــذات وبفضــل علــم الأفــكار نســتطيع أيضــا التنبــؤ بتطبيــق
فكــرة اللامحـدد في ميـدان تحليـل مفهـوم المعنـى. بالفعـل أنتـج كويـن مذهبـا في
المعنـى يدعـي ان المعنـى غـر محـدد[3]، ينجـح
علـم الأفـكار في تفسـر لمـاذا نشـأ هـذا المذهـب في المعنى في وقـت نشـوئه
بالـذات. لقـد نشـأ هـذا المذهـب في القـرن العشريـن ومـن بعـد تطويـر ميكانيـكا ّ
الكــم بســبب أن فكــرة اللامحــدد هــي جــزء مــن الــتراث الغــربي المتمثــل
في مذاهــب عــدةّ كمذاهــب كانــط وهيغــل وميكانيــكا الكــم. بالنســبة إلى
علــم الأفــكار، الأفــكار التــي تتخــذ حيـزاً أساسـيّاً أو غـر أسـاسي في
الفكـر البـشري قـد ينتـشر تطبيقهـا في مياديـن عـدة. وبذلـك بمــا أن فكــرة
اللامحــدد اتخــذت حيــزاً معينــاً في الفكــر البــشري فمــن الممكــن
تطبيقهــا في الاقتصـاد والمعنـى. هـذا مـا حصـل بالـذات. هنـا تكمـن قـدرة علـم
الأفـكار في التفسـر.
من جهة
أخرى، ومن منطلق علم الأفكار، نستطيع بحـق تطبيق فكرة اللامحـدد في ميادين وحقول
عدة. هذا ما سنقوم بـه تفصيليّـاً، الآن. علم الأفكار يدعونا إلى دراسة الأفكار
الممكنة، ومن ضمن هذه الأفكار فكرة تطبيق فكرة اللامحـدد في حقول معرفية مختلفة.
وبذلك يتنبأ علم الأفكار بتطبيق فكرة اللامحدد في ميادين عـدة. هنا تكمن قدرة علم
الأفكار على التنبؤ بظواهر فكرية معينة. فمثلا،ً يتنبأ بتطبيق فكرة اللامحدد في
علم البيولوجيا. فإذا تم ذلك، حينها يتعزز صدق علم الأفكار. من هنا، علم الأفكار
يشكل نظرية علمية ولا يشكل فقط نظرية فلسفية. كما أن علم الأفكار يتنبأ وبذلك بُحـث
في تطبيـق فكرة اللامحدد في ميادين مختلفة. لكن ما هو اللامحدد؟ لقد عرفنا
اللامحدد في كتاب «مقام المعرفـة ـ فلسفة العقل والمعنى» على انه ليس سوى عدم وجود
الزمان والمكان في عالم ما دون الذرة. فإذا طبقنا هذه الفرضية على العالم الذري أي
العالم المرئي فسوف نحصل على نظرية جديدة في الفيزياء. لكني أدع هذه المهمة للقارئ. هنا ندخل في ديموقراطية الثقافة؛ فلكل منا حق في دراسة ما هو ممكن.
[2[ ـSee: George
Soros: Open Society. 2000. Little، Brown and Company.
[3[ ـSee: Quine: Word and Object. 1960. M.I.T press.
في المنهج
لقــد
حددنــا موضــوع علــم الأفــكار، لكــن مــا هــو منهجــه؟ لا يوجــد منهــج
محــدد لــه، بـل بفضـل بنـاء أي فكـرة ممكنـة أو مذهـب ممكـن نبنـي منهجـاً
ممكنـاً. فتتنـوع المناهـج، وتنوعهـا أفضـل مـن أن نسـجن في منهـج واحـد ومحـدد.
مثـلا،ً مـن خـلال دراسـتنا لكيفيـة تطبيـق اللامحـدد عـى مواضيـع عـدة نبنـي في
الحقيقـة منهجـاً جديـداً ألا وهـو القائـل: لا بـد مـن دراسـة الأشـياء مـن خـلال
أنهـا غـر محـددة. فالظواهـر غـر محـددة، والنصـوص غـر محـددة، والمعرفـة والواقـع
غـر محدديـن، جواهرنـا (جوهـر الإنسـان وجوهـر الطبيعـة الـخ) غـر محـددة. المنهـج
ليـس سـوى تطبيـق هـذه الأفـكار والمسـلات في دراسـاتنا والكشـف عـن مـدى نجـاح
هـذه الدراسـات.
لا بــد
مــن مقارنــة بســيطة هنــا، بينــا المنهــج التفكيكي يقــوم بتفكيــك النصــوص
أي بالكشـف عـن اللامعقوليـات التـي تنبنـي عليهـا النصـوص، منهـج علـم الأفـكار
يقـوم بتحديـد الأفــكار التــي مــن الممكــن ان توجــد أو مناهــج مختلفــة
تتنــوع مــع تنــوع العــوالم الممكنــة التـي يـراد دراسـتها. توجـد عـوالم
ممكنـة تتكـون مـن الأفـكار الممكنـة التـي لم تفكـر بهـا البشريـة، ومـن خـلال
حجبهـا واقصائهـا حـددت الأفـكار التـي سـيطرت عـى فكـر البشريـة. مثــل عــى ذلــك أن الظواهــر محــددة فإمــا أنــك إنســان
وإمــا أنــك حيــوان. هــذه الفكــرة سـيطرت عـى عقولنـا. لكـن في المقابـل توجـد
عـوالم فكريـة حيـث الظواهـر غـر محـددة بــل تقســيمنا إلى إنســان وحيــوان هــو
تقســيم اعتباطــي.
التفكير
الممكن
توجــد
طــرق عديــدة في التفكــر منهــا طريقــة جديــدة تدعــى التفكــر الممكــن.
لنقســم بحثنـا في اتجاهـن: أولا، يوجـد الموقـف الداعـي إلى أننـا نملـك الحـق
بـأن نعتقـد باعتقـاد ما إذا لم توجـد حجـة أو دليـل ينقـض اعتقادنـا. موقـف آخـر
معـارض يقـول أننـا لا نملـك الحـق في أن نعتقـد باعتقـاد مـا إلا إذا كانـت
لدينـا حجـة أو دليـل عـى صــدق اعتقادنـا. الموقـف الأول لا يلزمنـا بـأن نرهـن
عـى مـا نعتقـد، بمـا أن الموقـف الاول لا يلزمنـا عـى أن نرهـن عـى مـا نعتقـد،
فيحـق لنـا الاسـتمرار في الاعتقـاد بصـدق مـا نعتقـد رغـم أنـه مـن الممكـن ّ أن
تكـون معتقداتنـا كاذبـة، فيشـجعنا عـى أن لا نبحـث عـا ينقـض معتقداتنـا فيخرجنـا
هـذا الموقـف عـن الصـواب والبحـث العلمـي؛ فينهـي البحـث العلمـي قبـل أن يبـدأ.
أمـا التفكـر الممكــن فــلا ينهــي ولا يقــي عــى البحــث العلمــي قبــل ان
يبــدأ لأنــه يدعونــا إلى إنشــاء نظريــات وأفــكار مــن الممكــن ان توجــد أو
يفكــر بهــا مــا يســتدعي الأفــكار والمعتقــدات التـي قـد تنقـض معتقداتنـا
ومسـلماتنا.
الموقــف الثــاني
يلزمنــا بتقديــم براهـين عـلى صــدق مــا نعتقــد لــي تشــكل معتقداتنــا
معرفـة أو علـا. لكـن مـن الممكـن أن ألاّ نملـك مثـل تلـك الراهـن مـا يجعـل
معظـم أو كل معتقداتنـا لا تشـكل معرفـة أو علـا وبذلـك نسـقط في الشـك المعـرفي.
أي نسـقط في الشـك بصـدق اي معتقـد لدينـا أو لـدى الآخريـن. أمـا التفكـر الممكـن
فـلا يسـوقنا نحـو المذهـب الشـي لأنـه يدعونـا إلى بنـاء الأفـكار التـي مـن
الممكـن ان توجـد والتـي مـن الممكـن ان تنقـد معتقداتنـا ومسـلاتنا، لكنـه في
المقابـل لا يدعونـا إلى الاقتنـاع أو الإيمـان بهـا ورفـض مـا نعتقـد. بـكل
بسـاطة، التفكـر الممكـن لا يلزمنـا بتقديـم براهـن عـى مـا نعتقـد في عالمنـا
الواقعــي بــل يدعونــا إلى أن نتصــور أننــا علــاء أو فلاســفة نســكن في
عــالم ممكــن حيــث علينـا أن نفكـر بمـا يفكـر ويعتقـد بـه هـؤلاء الغربـاء.
التفكــر
الممكــن هــو دعــوة إلى الخــروج مؤقتــا مــن معتقداتنــا والادعــاء بأننــا
نعتقــد بمعتقــدات اخــرى. طبعــا هــذا الخــروج لا بــد ان يعتمــد عــى أصــول
البحــث الموضوعــي أو العلمـي. التفكـر الممكـن دعـوة للانفتـاح عـى المعتقـدات
الممكنـة أو المحتملـة. هـذه وظائفـه وليسـت تحليـلات لمفهـوم «التفكـر الممكـن.»
التفكـر الممكـن دعـوة نحـو التغيـر وعــدم عبــادة الأوثــان الفكريــة؛ كل
واحــد منــا يســتطيع الآن أن يتفلســف وينشــئ نظريــات علميـة. في ميـدان علـم
الأفـكار، تلـك الأفـكار والمذاهـب والنظريـات التـي تعـر عنهـا هـي ليسـت مـا
تعتقـد أو تعلـم بـل هـي فقـط مـا قـد تعتقـد وتعلـم؛ علـم الأفـكار تمهيـد لمـا
قـد يعتقــد ويعلــم الآخــرون.
ثانياً، بالإضافة إلى الموقف السابق يوجد المذهبان التاليان:
أـ لا بـد
ان تتخـذ موقفـا مـن كل مسـألة. فـإذا سـألناك عما هو الجمال عليك ان تجيب. وإذا سـألناك عما هـو التحليل الصادق للعمل الخير، عليك أن تجيب
الـخ.
ب ـ ليـس
مـن الداعي أن يكون لديك موقف من كل مسألة؛ بل لديك الـق في أن تمتنع عـن الحكم.
الاتجاه
الأول يدعوك إلى أن تكون لديك اعتقادات أو نظريات عن معظم الأشياء أو كلها. لكن
إذا قمت بذلك، فسوف ينتهي البحث العلمي. فمثلا،ً إذا اعتقدت بأن نظرية أينشتاين هي
النظرية الصادقة عـن الكون، إذاً بحثـك العلمـي في الكـون سـينحر ضمـن تلـك
النظريـة، وبذلـك ينتهـي حقـا البحـث العلمـي الخـلاق. لكـن التفكـر الممكـن
يتجنـب هـذه المشـكلة. فهـو لا ينهـي البحـث العلمـي بـل يشـجعه ويطـوره لأنـه
يدعـوك إلى التفكـر بأفــكار مــن الممكــن وجودهــا أو التفكــر فيهــا. وبذلــك
يســتمر البحــث العلمــي وإن كنــت مثــلاً مقتنعــاً بــأن هــذه النظريــة أو
تلــك صادقــة؛ فــا زلــت قــادرا عــى التفكــر بنظريــات اخـرى وإبـداع نظريـات
جديـدة ومختلفـة.
أمـا
الاتجـاه الثـاني فيقـول: لـك الحـق في أن تمتنـع عـن الحكـم فـلا تشـكل معتقـدات
في كل مجـال مـن مجـالات العلـوم لأنـك لا تسـتطيع ان تعـرف كل الحقائـق والحجـج
أو الدلائـل لــي تكتشــف أي نظريــة هــي الصادقــة أو المقبولــة في كل مجــال
مــن مجــالات البحــث. وبذلـك إذا كنـت أديبـا مثـلا فسـوف يشـجعك
هـذا الاتجـاه عـى عـدم التفكـر بالفيزيـاء رغـم أنـك قـد تفكـر ببعـض النظريـات
الفيزيائيـة الممكنـة. هـذه هـي مشـكلة هـذا الاتجـاه فهـو يضـع حـدوداً لـكل
باحـث ويحـره في مجالـه التخصـصي. أمـا التفكـر الممكـن فيتجنـب هـذه المشـكلة بـل
يدفـع المثقفـن كافـة وحتـى غـر المثقفـن نحـو التفكـر والإبـداع في أي مجـال قـد
يلامسـون بـه الحقيقـة مـن بعيـد أو قريـب، وبذلـك يدفـن الحـدود بـن المجـالات
المختلفـة في البحـث والعلـوم. هـذا لأنـه لا يدعـوك إلى أن تمتنـع عـن الحكـم عـى
أسـاس
أنـك لا
تملـك كل المعـارف. فـلا أحـد يملكهـا كلهـا. بـل التفكـر الممكـن يقـدم لـك
أساسـاً معرفيّــاً مــن خلالــه تســتطيع بحــق أن تحكــم عــى صــدق هــذه
النظريــة أو تلــك رغــم أنــك تفتقـر إلى العـدة المعرفيـة الكاملـة والتـي لا
يملكهـا أحـد. وبذلـك يسـتمر البحـث ويزدهـر.
البحث عن
العلم وتجنب التناقض
إذا قبلنـا
بصـدق نظريـة العلـم المثبتـة في كتـاب «مقـام المعرفـة ـ فلسـفة العقـل والمعنـى.» سـيتضح أن علـم الأفـكار هـو علـم يبحـث عـن النظريـات العلميـة.
بالنسـبة إلى تلـك النظريـة، النظريـة العلميـة هـي النظريـة الصادقـة في عـالم
ممكـن شـبيه بعالمنـا. لكـن علـم الأفـكار هـوّ العلـم الـذي يـدرس العـوالم
الممكنـة الشـبيهة بعالمنـا وغـر الشـبيهة بـه. مـن هنـا فـإن ّ فـإن علــم
الأفــكار يــدرس النظريــات العلميــة بــل يحــاول أن يكتشــف مــا هــي. علــم
الأفــكار لا يكتفـي بذلـك بـل هـو العلـم المُؤسـس للعلـوم. هـذا لأنـه يسـعى ف
نمـاء النظريـات التـي مـن الممكـن ان تكـون صادقـة في أي عـالم ممكـن، ومـن ضمـن
هـذه العـوالم الممكنـة توجد العـوالم حيـث تُكشَـف النظريـات العلميـة.
بالإضافــة
إلى ذلــك، لعلــم الأفــكار فضيلــة كــرى هــي أنــه يســاعد الباحــث عــى
عــدم القلــق بالنســبة إلى الســقوط في التناقــض. بمعنــى آخــر، إذا كنــا
نقــوم بأبحاثنــا مــن منطلــق علـم الأفـكار فيحـق لنـا أن نُنشـئ نظريـات
مختلفـة بـل مناقضـة لبعضهـا بعضـاً. هـذا لأننـا نـدرس فقـط الأفـكار التـي مـن
الممكـن ان تبنـى والتـي لا نعتقـد بصدقهـا، أو التـي اعتقادنـا بهـا محـدود.
طبعـا، هـذا لا يعنـي أنـه يحـق لنـا أن نسـقط في التناقـض في النظريـة نفسـها.
علم الأفكار
والفلسفات الأخرى
مـن منطلـق
علـم الأفـكار نسـتطيع بحـق أن نسـلم بفلسـفة مـا أو أخـرى وننطلـق في العمـل
ضمــن ميدانهــا. هــذا لأنــه بالنســبة إلى علــم الأفــكار نحــن نعنــى ببنــاء
الأفــكار التــي مــن الممكــن التفكــر فيهــا ولا نتخذهــا كمعتقــدات نهائيــة
لنــا. مــن هنــا يحــق لنــا أن نخــوض في الفلســفة التحليليــة محاولــن أن
نقــدم تحليــلات جديــدة أو شــبه جديــدة للمفاهيــم. لا يكتفـي علـم الأفـكار
بهـذا بـل يـشرع مـا يقـوم بـه الفلاسـفة والعلـاء. هـذا لأنـه علـم يـدرس
النظريـات التـي مـن الممكـن ان تكـون صادقـة، وكل مـا قـام بـه الفلاسـفة
والعلـاء عـى مـر التاريـخ هـو البحـث عـن النظريـات التـي مـن الممكـن ان تكـون
صادقـة. هـذا العلـم ليـس علـاً «جديـداً» لأنـه أصـل العلـوم.
إذا دفعنا
السوبر حداثـة أو علـم الأفكار إلى أقصاه، تصبـح مهمتنا أن نضـع ما هوصادق أو ما
نعرفـه بيـن مزدوجين ونتناساه، وأن نبحث عما من الممكن أن يكون صادقا رغم كذبه في
عالمنا. هذا هو المذهب الفلسفي الذي يدعو إلى بناء النظريات الكاذبـة.
فتاريـخ الفلسـفات
والعلـوم تاريـخ النظريـات الكاذبـة.
في معناها
ومبانيها النظرية والعملية
بينما تدرس
الحداثة العالم الواقعي وتعتبره قائمـً بذاته ومستقلاً عن العقل، ترى ما بعد
الحداثة أن العالم غير مستقل عن العقل، بل هو نتيجة بناءات عقلية. بالنسبة إلى
الحداثة العالم موضوعـي، لكـن مـا بعـد الحداثـة تقـر بأنـه غـر موضوعـي؛ وعلى
سبيل المثال تقول ما بعد الحداثة. "إن العلوم لا تـدرس الكون كما هو بل تخلقه
من خلال دراسته [1]"
أما السوبر
حداثة فتتجنب المذهب السابق حــن تــدرس الممكنــات كممكنــات.فالممكـن ـ حسـب مذهبهـا ـ قائـم بذاتـه،
أي انـه مسـتقل عـن العقـل، ومعتمـد عـى العقـلٍ في آن. الممكـن موضوعـي، قائـم
باسـتقلال في العـالم الواقعـي، وذاتي أي ليـس سـوى بنـاء عقـي في الآن ذاتـه. هـو
موضوعـي وقائـم بذاتـه في العـالم الواقعـي لأنـه صفـة للكـون؛ كأن تكـون إمكانيـة
وجـود حصـان طائـر صفـة للكـون كصفـة أنـه لا بـد مـن وجـود ظـروف معينـةِ أو
أســباب معينــة ليوجــد حصــان طائــر. ومــن جهــة اخــرى، الممكــن معتم ٌ ــد
عــى العقــل، بــل هــو بنــاء عقــي لأن مــا نتمكــن مــن تخيلــه أو التفكــر فيــه
لا بــد أن يكــون ممكنــاً (في حـال عـدم تناقضـه) والعكـس صحيـح. عـى هـذا
الأسـاس تتخطـى السـوبر حداثـة الانقسـام التقليـدي القائـم بـن اعتبـار الكـون
مسـتقلاً عـن العقـل واعتبـاره معتمـداً عليـه.
[1[ ـHenry Pollack:
Uncertain Science… Uncertain Word. Cambridge University Press P8. 2003.
الحداثـة ـ كـا تبـن لنـا سـابقاً ـ تعـترف
بنظـام فكـري واحـد صـادق ومقبـول، أمـا مـا بعـد
الحداثـة فتتجـه نحـو التعدديـة، لتقـول بعـدم أفضليـة نظـام فكـري أو سـلوكي عـى نظـام آخـر، ومــن هنــا تدافــع مــا بعــد الحداثــة عــن الراغاتيــة التعدديــة في المجتمــع[ .[1لكــن الســوبر حداثـة هـي حالـة التعدديـة في الفـرد ذاتـه. فمـن غـر الـروري أن يكـون للفـرد نظـام فكـري واحــد، بــل لا بــد ان يكــون للفــرد نُظُــم فكريــة متعــددة كأن ينتــج نظريــات علميــة مختلفــةّ ومتناقضــة في مــا بينهــا كــا انتــج اينشــتاين نظريــة النســبية وميكانيــكا الكــم المتعارضتــن. فالســوبر حداثــة هــي دراســة الممكنــات، حيــث الممكنــات تشــكل نُظُــاً فكريــة عديــدة ومختلفــة في مــا بينهــا.
الحداثـة فتتجـه نحـو التعدديـة، لتقـول بعـدم أفضليـة نظـام فكـري أو سـلوكي عـى نظـام آخـر، ومــن هنــا تدافــع مــا بعــد الحداثــة عــن الراغاتيــة التعدديــة في المجتمــع[ .[1لكــن الســوبر حداثـة هـي حالـة التعدديـة في الفـرد ذاتـه. فمـن غـر الـروري أن يكـون للفـرد نظـام فكـري واحــد، بــل لا بــد ان يكــون للفــرد نُظُــم فكريــة متعــددة كأن ينتــج نظريــات علميــة مختلفــةّ ومتناقضــة في مــا بينهــا كــا انتــج اينشــتاين نظريــة النســبية وميكانيــكا الكــم المتعارضتــن. فالســوبر حداثــة هــي دراســة الممكنــات، حيــث الممكنــات تشــكل نُظُــاً فكريــة عديــدة ومختلفــة في مــا بينهــا.
مــن جهــة
اخــرى، إذا كانــت الحداثــة تحلــل المفاهيــم القديمــة أو التقليديــة، ومــا
بعــد الحداثـة تخلـق المفاهيـم الجديـدة (انظـر: جيـل دولـوز وفليكيـس غتـاري:
مـا هـي الفلسـفة. ترجمـة: مطـاع صفـدي .1997مركـز
الإنمـاء والمركـز الثقـافي العـربي،) فالسـوبر حداثـة تنفـي المفاهيـم، أكانـت
قديمـة أم جديـدة، كنفـي وجـود مفهـوم المثقـف ومدلولـه. مـن هنـا مـن الممكـن
مثـلاً نفـي مفهـوم الدولـة ومدلولـه.
الدول
والامبراطوريات
لقــد
تعودنــا أن نقــرأ عــن الــدول والحضــارات. لكــن هــل توجــد حقــا؟ لا، بــل
الــدول والحضــارات كائنــات ورقيــة، أي توجــد فقــط عــى الــورق، هــي
مشــاريع فكريــة تعودنــا ان
نعتقـد بوجودهـا. لنسـلم بوجـود مـا يدعـى الـدول. عنـر أسـاسي لا يفـارق مفهـوم الدولـة هـو ان لهـا سـيادة مطلقـة فـلا يحـق لأي دولـة ان تغـزو أخـرى وتغـر نظامهـا أو ثقافتهـا. نجـد أن هــذا العنــر الأســاسي لتشــكيل الــدول غــر متوفــر. وبذلــك لا توجــد دول عــى وجــه الأرض بـل توجـد فقـط عـى الخارجـة الورقيـة. فلـو انـه توجـد دول، لا بـد مـن وجـود سـيادة مطلقـة لهـا. لكـن لا توجـد هـذه السـيادة، وبذلـك لا وجـود للـدول. مثـل عـى فقـدان السـيادة واقعيـا هـو اجتيـاح الـدول لبعضهـا بعضـا كاجتيـاح أمـركا للعـراق واحتـلال فلسـطن وتشريـد ِ شـعبها. نضيـف: توجـد الـدول إذا وجـد نظـام عالمـي يفـرض، بالقـوة ّ والحـق َ ، حـدود تلـك الـدول وواجباتِهـا وحقوقَهـا كحـق السـيادة فيمنـع مـا يسـمى الـدول مـن غـزو بعضهـا بعضـاً. هـذا الـشرط غـر متوفـر، وبذلـك مفهـوم الدولـة مفهـوم ملفـق لا أسـاس لـه.
نعتقـد بوجودهـا. لنسـلم بوجـود مـا يدعـى الـدول. عنـر أسـاسي لا يفـارق مفهـوم الدولـة هـو ان لهـا سـيادة مطلقـة فـلا يحـق لأي دولـة ان تغـزو أخـرى وتغـر نظامهـا أو ثقافتهـا. نجـد أن هــذا العنــر الأســاسي لتشــكيل الــدول غــر متوفــر. وبذلــك لا توجــد دول عــى وجــه الأرض بـل توجـد فقـط عـى الخارجـة الورقيـة. فلـو انـه توجـد دول، لا بـد مـن وجـود سـيادة مطلقـة لهـا. لكـن لا توجـد هـذه السـيادة، وبذلـك لا وجـود للـدول. مثـل عـى فقـدان السـيادة واقعيـا هـو اجتيـاح الـدول لبعضهـا بعضـا كاجتيـاح أمـركا للعـراق واحتـلال فلسـطن وتشريـد ِ شـعبها. نضيـف: توجـد الـدول إذا وجـد نظـام عالمـي يفـرض، بالقـوة ّ والحـق َ ، حـدود تلـك الـدول وواجباتِهـا وحقوقَهـا كحـق السـيادة فيمنـع مـا يسـمى الـدول مـن غـزو بعضهـا بعضـاً. هـذا الـشرط غـر متوفـر، وبذلـك مفهـوم الدولـة مفهـوم ملفـق لا أسـاس لـه.
[1[ ـSEE: Jon Stuhr: Pragmatism، Postmodernism، and Te Future of Philosophy.
2003. Routledge.
بينـا نجـد
بعـض المفكريـن يفـرون الأحـداث السياسـية والعسـكرية مـن خـلال منطـق صراع
الــدول مــن اجــل تحقيــق مصالحهــا كــا يفعــل مثــلاً فــؤاد عجمــي[ ،[1نجــد
بعضهــم الآخـر يفـر تلـك الظواهـر مـن خـلال صراع الحضـارات كـا يفعـل هنتنغتـون[ .[2لكـن هـل
وجـدت امـركا مصلحـة عسـكرية أو ماليـة في غـزو يوغسـلافيا؟ لا. مـن هنـا، مصالـح
الـدول لا قـدرة تفسـرية لهـا. وهـل التنافـس بـن الـشرق والغـرب يعكـس صـورة
الـراع الحضـاري المزعـوم؟ لا، بمـا أن أمـركا التـي مثـلا غـزت العـراق تتشـكل
مـن مـا يدعـى حضـارات عـدة وممـن ضمنهـا «الحضـارة العربيـة،» ذلـك ان أمـركا
تتكـون مـن مجموعـات شـعوب أوروبيـة وصينيـة وعربيـة الـخ، تحمـل معتقـدات وترفـات
قـد تختلـف وقـد تتفـق. نسـأل هنـا: هـل حقــا توجــد حضــارات عــدة؟ الجــواب:
مفهــوم الحضــارات المختلفــة مفهــوم يوجــد عــى الـورق ولا يشـر إلى أي وقائـع
موجـودة حقـا. والدليـل مثـلا ان مـا يدعـى الحضـارة الأمركيـة يتشـكل مـن ثقافـات
عـدة.
علـى هــذا
الأســاس لا بــد مـن اســتعادة مفهـوم «الامراطوريــة» واعتبـاره مفهومـاً
علميّـاً. لا وجـود لـدول وحضـارات بـل توجـد امراطوريـات كالإمراطوريـة
المغوليـة والرومانيـة في التاريــخ والإمراطوريــة الأمركيــة حاليّــاً. مــا
هــو الجوهــر المكــون للإمراطوريــة؟ القــوة ثــم القــوة، أي الجيــش القــوي
الغــازي بالمعنــى الحــربي. تشــكلت الإمراطوريــة المغوليــة مــن جيشـها
القـوي ولم تـن عـى أسـاس ثقافتهـا المتطـورة، أمـا الإمراطوريـة الرومانيـة
فاتصفـت بجيشـها القـوي وسـن قوانينهـا، بينـا الامراطوريـة الأمركيـة فتتصـف
بقـوة جيشـها وعلمهـا التكنولوجــي المتطــور. عــى أســاس هــذه المقارنــة
البســيطة يبــدو ان جوهــر الإمراطوريــة يتكـون مـن قوتهـا العسـكرية ليـس إلا.
[1[ ـTe Clash of Civilizations: Te Debate. Foreign Affairs. 1996
[2[ ـSamuel Hintington:
Te Clash of Civilizations:Touchstone Book. 1996.
يتشــكل
العــالم مــن امراطوريــات. فقــد تشــكل في القــرن المــاضي مــن امراطوريــة
ســوفياتية وصينيــة وأمركيــة، ويتشــكل اليــوم مــن الامراطوريتــن الصينيــة
والأمركيــة بينــا تنشـأ امراطوريـة أوروبيـة تتمثـل اليـوم في الاتحـاد
الأوروبي. أمـا باقـي العـالم فيتكـون مـن شــعوب وســلطات محليــة إمــا مواليــة
لإمراطوريــة مــا وبذلــك تكــون مســتقرة نســبيا وإمــا معاديـة للإمراطوريـات
القائمـة وبذلـك تتصـف بالاضطرابـات والثـورات والحـروب وتكـون بذلـك معرضـة
للغـزو مـن قبـل هـذه الامراطوريـة أو تلـك. هـذه النظريـة تملـك قدرة تفسـريّة ناجحــة.
فالــدول الأوروبيــة مســتقرة نســبيا لأنّهــا مواليــة للإمراطوريــة
الأمركيــة. أمــا شرقنــا العـربي فغـر مسـتقر لأنـه لا يـوالي هـذه الإمراطوريـة
أو تلـك ولا توجـد امراطوريـة عربيـة.
لنعــد إلى
مفهــوم الســيادة. قــد ينظــر إلى الســيادة عــى أنهــا غــر مطلقــة بحيــث أن
أي دولـة تفقـد حـق السـيادة عـى أراضيهـا إذا خالفـت قوانـن المجتمـع الـدولي.
لنسـلم بـأن هذا التعريـف صـادق وبـأن الـدول حقـاً موجـودة. لكـن إذا كان مـن
الممكـن للـدول ان تفقـد حـق الســيادة اذا خالفــت قوانــن المجتمــع الــدولي،
إذاً مــن الممكــن ان يفقــد المجتمــع الــدولي حــق الســيادة إذا خالــف
قوانينــه بالــذات. بالفعــل لقــد خالــف المجتمــع الــدولي قوانينــه بالـذات
حـن سـمح لبعـض الـدول بالاعتـداء عـى دول اخـرى كاعتـداء أمـركا عـى العـراق،
واعتــداء إسرائيــل عــى الــدول العربيــة. مــن هنــا، وبالنســبة إلى
المفهــوم الســابق للســيادة، فقـد المجتمـع الـدولي حـق السـيادة، وبذلـك يحـق
لنـا ان نقاتلـه. هـذه نتيجـة غـر مرغـوب بهـا. مـن هنـا لم يفقـد المجتمـع
الـدولي حـق السـيادة بـل المفهـوم السـابق للسـيادة مفهـوم خاطــئ[[1
اليقين
واللايقين
أحـد
المذاهـب الأساسـية في مـا بعـد الحداثـة هـو التفكيكيـة التـي تعتـر ان كل خطـاب
مبنـي عـى اللامعقوليـات. مـن هـذا المنطلـق مـن الممكـن درس العلـوم عـى انهـا
تتضمـن اللايقــن واعتبــار الأخــر ركيــزة تقــدم العلــم[ [2فبينــا تســعى
الحداثــة للوصــول إلى اليقــن ودراســته، تــدرس مــا بعــد الحداثــة اللايقــن
وتدعــي انــه صفــة ملازمــة للعلــم. أمــا الســوبر حداثـة فتـدرس
اللامعقوليـات عـى أنهـا معقوليـات وتـدرس اللايقـن عـى أنـه يقـن لأنهـا تـدرس
الممكنـات. بمـا أنهـا تعنـى بفحـص الأفـكار الممكنـة والتـي مـن ضمنهـا
اللامعقـول واللايقــن وتطــور تلــك الأفــكار عــى أســاس أنهــا صادقــة في
عــوالم ممكنــة غــر عالمنــا، فهـي تـدرس اللامعقوليـات في عالمنـا عـى أنهـا
معقوليـات في عـوالم ممكنـة، واللايقـن في عالمنـا عـى انـه يقـن في عـوالم اخـرى.
مـن هنـا تعـزز السـوبر حداثـة أحـلام الفلاسـفة الكبار فمثـلاً مـن الممكـن
اعتبـار انـه يوجـد عقـل كـوني يتجسـد في ظواهـر شـتى ودراسـة تجسـده مـا يتيـح
لنـا دفـع فلسـفة هيغـل قدمـا بتطبيقهـا عـى الظواهـر المكتشـفة حديثـاً. وسـنترك
تفاصيـل هكـذا أبحـاث لعلـاء الأكـوان الممكنـة.
[ [1ـ راجع حسن عجمي ـ حول مفهوم الدولة ـ مجلة فكرـ بيروت ـ العدد .2003 ،80
[2[ ـSee: Henry Pollack: Uncertain Science… Uncertain Word. Cambridge University Press. 2003.
مـن أهـم
مـا جـاءت بـه مـا بعـد الحداثـة شـكها بمفاهيـم الموضوعيـة والحقيقـة والمعايـر
والعقــل إلــخ[
.[1أمــا الحداثــة فتدعــي عكــس ذلــك. مــن هنــا تقــول
الحداثــة مــع هيغــل ان الواقعـي عقـلاني وأن العقـلاني واقعـي بينـا تقـول مـا
بعـد الحداثـة ان الواقعـي ليـس عقلانيّاً، والعقــلاني ليــس واقعيّــاً[ [2عــى هــذا
الأســاس تعتــر الســوبر حداثــة ان الوهمــي عقــلاني، والعقـلاني وهمـي،
والواقـع احـد تشـخصات الوهـم كـا ان الوهـم أحـد تشـخصات الواقـع. هـذا لأنهـا تـدرس العـوالم الممكنـة (الوهميـة) التـي مـن ضمنهـا
عالمنـا (الواقعـي) بحيـث إن كل عـالم ممكـن يشـكل جـزءا مـن العقلانيـة كونـه
ممكنـاً. مـن هنـا، يتكـون الموضوعـي مـن مجمـوع تشـخصات اللاموضوعـي، والحقيقـة
مـن مجمـوع تشـخصات اللاحقائـق، والمعيـار ّ الصحيــح مــن مجمــوع تشــخصات
المعايــر النســبيّة والمتضاربــة في مــا بينهــا. هــذا لأن السـوبر حداثـة
تعنـى بفحـص العـوالم الممكنـة التـي يتكـون منهـا اللاموضوعـي واللاحقائـق
والمعايــر النســبيّة بيــد أن العــوالم الممكنــة تتضمــن ايضــا عالمنــا
الواقعــي الموضوعــي المالـك للحقائـق والمعيـار الاصيـل لكشـفها. بمعنـى مـا، الحقيقـة
هـي مجموعـة الأوهـام، والأوهـام هـي العـوالم الممكنـة. والمعنـى هـو مجمـوع
اللامعـاني التـي تتكـون منهـا الأكـوان المختلفـة، والمعرفـة هـي مجمـوع
اللامعرفيـات التـي تشـكل العـوالم الممكنـة. هـذه ليسـت بتعاريــف لمفاهيــم
الموضوعــي والحقيقــة والمعنــى والمعرفــة وإلا وقعنــا في الــدور. بــل
المقصـود بأنـه مثـلا المعرفـة تحتـوي فقـط عـى مجمـوع اللامعرفيـات الـخ.
وتقـول الحداثـة بوجـود
مجموعـة قيـم ثقافيـة صادقـة مـن بـن مجموعـات القيـم المختلفة وبذلــك مــن
الممكــن المفاضلــة بينهــا. أمــا مــا بعــد الحداثــة فتقــول باســتحالة
تقويــم مجموعـات القيـم المختلفـة وبذلـك مـن غـر الممكـن تفضيـل بعضهـا عـى
بعضهـا الآخـر. مـن هنـا اسـتخدمت مـا بعـد الحداثـة مفهـوم الاختـلاف بمعنـى
اننـا فقـط مختلفـون ونملـك قيـا مختلفـة فـلا وجـود مجموعـة قيـم متفوقـة عـى
مجموعـة قيـم أخـرى. والنقـد الـذي يوجهـه الفلاسـفة لهـذا الاتجـاه مـا بعـد
الحداثـوي هـو انـه مـن الممكـن مقارنـة مجموعـات القيـم المختلفـة وتقويمهـا[[[. أمـا
السـوبر حداثـة فتخطـو نحـو الممكنـات، فمـن الممكـن ان تقـول أنهـا تعنـى بكشـف
أو خلـق قيـم ممكنـة لم نفكـر بهـا مـن قبـل أو لم توجـد مـن قبـل. مـن هنـا تسـعى السـوبر حداثـة إلى خلـق قيـم المسـتقبل؛ فالقيـم
الحقيقيـة هـي مجمـوع كل القيـم الممكنـة. مـن هـذه القيـم الممكنـة انـه يحـق
لـكل فـرد ان يستنسـخ جينيّـاً ويملـك حـق اسـتخدام اعضـاء قرينـه (( )Cloneأي المستنسـخ منـه) لـي
يسـتمر في الحيـاة بصحـة أفضـل ولمـدة أطـول.
[[1ـ تيري ايغلتون: اوهام ما بعد الحداثة، ترجمة: ثائر ديب .0002دار الحوار. سورية. ص 7ـ.8
[ [2ـ المرجع السابق. ص .01
[ [3ـ انظر: أوهام ما بعد الحداثة. ص 58ـ.68
[[1ـ تيري ايغلتون: اوهام ما بعد الحداثة، ترجمة: ثائر ديب .0002دار الحوار. سورية. ص 7ـ.8
[ [2ـ المرجع السابق. ص .01
[ [3ـ انظر: أوهام ما بعد الحداثة. ص 58ـ.68
بالإضافـة
إلى ذلـك، تؤمـن الحداثـة بالجوهرانيـة التـي تدعـي بـأن للأشـياء جواهـر بفضلهـا
تصبـح الأشـياء عـى مـا هـي. لكـن جواهـر الأشـياء هـي الروريـة والكافيـة لوجـود
الأشـياء، بينـا تحليـل المفاهيـم يقـدم الظـروف الروريّـة والكافيـة لتحقق
مدلـولات المفاهيـم. وبذلك تؤمــن الحداثــة بتحليــل المفاهيــم وتســعى إليــه.
أمــا مــا بعــد الحداثــة فترفــض الجوهرانيــة، فـلا وجـود لجواهـر للأشـياء
وبذلـك ترفـض تحليـل المفاهيـم[ .[1أمـا السـوبر حداثـة
فتعـترف بوجـود الجواهـر لكنهـا تضيـف أن الجواهـر موجـودة في العـوالم الممكنـة
وليسـت موجـودة في عالمنـا الواقعـي. مـن هنـا مـن الممكـن دراسـة الجواهـر
وتحليـل المفاهيـم كـا هـي في العـوالم الممكنـة. والسـوبر حداثـة تقـول بأنـه
توجـد جواهـر عـدة للـيء الواحـد وتحليـلات عـدة ومختلفـة وصادقـة للمفهـوم ذاتـه
في عـوالم ممكنـة ومختلفـة. هـذا لأن السـوبر حداثـة تـدرس الممكنـات. فمثـلاً
العقـل في عـالم ممكـن مختلـف عـن العقـل في عـالم ممكـن آخـر، وبذلـك مـن الممكـن
تقديـم تحليـلات عـدة ومختلفـة للعقـل وصادقـة في عـوالم مختلفـة، وبذلــك توجــد
جواهــر عــدة للــيء الواحــد. عــى هــذا الأســاس تبنــى الفلســفة التحليليــة
كأنهـا مختـر للممكنـات.
كأنهـا مختـر للممكنـات.
مـن جهـة
أخـرى، تتبنـى مـا بعـد الحداثـة النسـبية الثقافـة أو العلميـة التـي تزعـم أننـا
ننتمـي إلى ثقافـات مختلفـة مـن غـر الممكـن تقويمهـا عـى أسـس محايـدة مـا
يدفعهـا إلى نتيجـة أن المنتمـن إلى ثقافـات مختلفـة عـى أسـس محايـدة أو نظريـات
علميـة مختلفـة مـن غـر الممكـن ان يتفاهمـوا أو يتحـاوروا[ .[2أمـا
الحداثـة فتنفـي تلك الأقـوال وتعتر أننـا وإن انتمينـا إلى نظريات أو ثقافـات
مختلفـة فـا نـزال قادريـن عـى التفاهـم والتحـاور. مـن جهتهـا تقـول السـوبر حداثـة
أننـا كمنتمـن إلى ثقافـات ونظريـات مختلفـة نسـتطيع ان نتفاهـم ونتحـاور في بعـض
العـوالم الممكنـة لكننـا في عـوالم اخـرى لا نسـتطيع ذلـك. هـذا لأننـا نحيـا في
العـوالم الممكنـة ولا نحيـا في الواقع فقـط. هـذا يعنـي أن كل عقـل ينقسـم إلى
عـوالم مختلفـة تحتـوي عى مضامـن ومفاهيـم مختلفة. وبذلـك مـن الممكـن الانتقـال مـن نظـام
مفاهيمـي إلى آخـر بقـرار أو اختيـار شـخصي.
[[1ـ أنظر: المرجع السابق. ص
081ـ.981
[[2ـ المرجع السابق. ص 222ـ .322
بمـا ان
السـوبر حداثـة مختـر يفحـص الممكنـات في الفكـر والسـلوك فمـن المتوقـع تنـوع
النظريــات في الموضــوع الواحــد وتعارضهــا. هــذا لا يشــكل مشــكلة فكريــة
لأننــا في الحقيقــة نـدرس الممكنـات فقـط. مـن هنـا سـنعيد طـرح بعـض الأسـئلة
ونجيـب عنهـا باختـلاف عـا كنا قـد أجبنـا.
المعرفة
واللغة والعلوم
بينـا ترفـض
مـا بعـد الحداثـة وجـود معرفـة مطلقـة لا تتبـدل ولا تتغـر، تقبـل الحداثـة بها. المعرفـة بالنسـبة إلى مـا بعـد الحداثـة هـي معرفـة نسـبية، أمـا
الحداثـة فتدعـي انهـا معرفـة غـر نسـبية. مـن جهـة اخـرى، قـد ترتقـي السـوبر
حداثـة بقولهـا: إن المعرفـة المطلقـة هـي مجمـوع المعـارف النسـبية. فتاريـخ
المعرفـة هـو تاريـخ نسـبية المعـارف وتبدلهـا. لا يوجـد داع للقـول بــأن
المعرفــة تختلــف عــن تاريخهــا بــل المعرفــة هــي النصــوص والأفــكار
المختلفــة التــي رافقـت البشريـة وتغـرت بتغـر البـشر وظروفهـم. مـن هنـا،
بالنسـبة إلى السـوبر حداثـة، توجـد معرفـة غـر نسـبية لكنهـا في الآن نفسـه
تتكـون مـن معـارف نسـبية؛ هـذا لأنهـا مـع المعـارف النسـبية تعـر عـن العقـل
البـشري وبذلـك تصبـح لا نسـبية. نعلـم ان بعـض المعـارف تناقـض البعــض الآخــر.
هــذا لا يشــر ســوى إلى أن مضمــون المعرفــة غــر محــدد لأن الواقــع غــر
محـدد، وهـذا لا ينفـي وجـود المعرفـة. فمثـلا ّ ،ً نحـن نعـرف ان نظريـة
ميكانيـكا الكـم صادقـة، لكننــا لا نعــرف مضمونهــا؛ فهــل يعنــي هــذا ان
الوعــي يخلــق الواقــع ام انــه يوجــد عالمــان بـدلاً مـن واحـد؟
كما تمتــاز
مــا بعــد الحداثــة بقبــول فكــرة أن تاريــخ المعرفــة يتصــف بانقطاعــات
معرفــة فـا هـو جديـد يختلـف نوعيّـاً عـا هـو قديـم[ .[1امـا
الحداثـة فترفـض هـذه الفكـرة وتقـول ان المعرفـة تتصـف بالتواصـل اي الارتبـاط
والتراكـم والاسـتمرار. مـن جهتهـا تعتـر السـوبر حداثـة ان المعرفـة تتصـف
بالانقطـاع والارتبـاط معـا؛ فـا هـو انقطـاع هـو ارتبـاط ومـا هـو ارتبـاط هـو
انقطـاع. مثـال ذلـك، إن مفهـوم الكتلـة massفي نظريـة نيوتـن
يختلـف في معنـاه عـن مفهـوم الكتلـة في نظريـة أينشـتاين (فالكتلـة mتعنـي F/aلـدى نيوتـن
بينـا تعنـي E/c2 لـدى أينشـتاين.) لكـن في الوقـت ذاتـه مفهـوم الكتلـة في
النظريتـن يـدل عـى الـيء ذاتـه ألا وهـو كميـة المـادة. مـن هنـا يوجـد انقطـاع
هـو ارتبـاط وارتبـاط هـو انقطـاع في آن، اي تتصـف المعرفـة بالانقطـاع والارتبـاط
معـاً. فمثـلاً المعرفـة منقطعـة بمـا ان مفهـوم الكتلـة في نظريـة نيوتـن يعنـي
شـيئاً مختلفـاً عـا يعنيـه في نظريـة أينشـتاين. والمعرفـة مرتبطـة في مـا بينهـا
لأن مفهـوم الكتلـة في نظريـة نيوتـن ونظريـة أينشـتاين يـدل عـى الـيء ذاتـه.
[ [1ـ أنظر ميشال فوكو: حفريات
المعرفة. ترجمة سالم يفوت. ،7891المركز الثقافي
العربي.
كما ان
الحداثـة تقـول ان مصـدر المعرفـة هـو العـالم الخارجـي أو البنيـة المسـبقة
لعقولنـا، بينــا تقــول مــا بعــد الحداثــة ان مصــدر المعرفــة هــو المجتمــع
أو الســلطة (انظــر فوكــو.) بالنسـبة إلى السـوبر حداثـة، لا يوجـد
مصـدر للمعرفـة بـل المعرفـة تشـكل حقـلاً قائمـاً بذاتـه ومســتقلاً عــن أي
عــالم مــادي في الخــارج أو اجتاعــي أو ســلطوي أو داخــي مســبق في العقـول،
بـكلام آخـر، المعرفـة مصـدر نفسـها. هـذا لأن فقـط مـا هـو معرفـة يسـتطيع بحـق
أن يرهـن عـى المعتقـدات وبذلـك تصبـح المعتقـدات الأخـرة معرفـة، أي فقـط مـا هـو
معرفـة يتمكـن بحـق مـن خلـق معـارف اخـرى. والدليـل هـو التـالي: لـو ان معتقـداً
مـا (أ) لا يشـكل معرفـة بالنسـبة لنـا فلـن نتمكـن بحـق الاعتـاد عليـه لـي نرهـن
عـى صـدق معتقـد آخـر، وبذلـك لـن نصـل بحـق مـن خلالـه إلى معرفـة اخـرى.
فاعتادنـا عـى أي معتقـد لـي نرهـن عـى معتقـد آخـر يواجـه ضرورة الرهنـة عـى
المعتقـد الاول وهـذا لا يتـم سـوى مـن خـلال الاعتـاد عـى معتقـد ثالـث وهكـذا
تتسلسـل عمليـة الرهنـة إمـا إلى مـا لا نهايـة وإمـا إلى دور قاتـل. مـن هنـا لا
مجـال أمـام الرهنـة عـى المعتقـدات سـوى الركـون إلى مـا هـو معرفـة مـا يجعـل
المعرفـة حقـلاً مسـتقلاّ عـن أي كائـن آخـر أو مصـدر.
وتضيــف ما
بعــد الحداثــة ان المشــاكل الفلســفية هــي مشــاكل كاذبــة لأنهــا في
الحقيقــة تخبـط لغـوي، وبذلـك المشـاكل الفكريـة تـذوب مـن خـلال ايضـاح معـاني
المفاهيـم [[1لكـن
الحداثــة تدعــي ان المشــاكل الفلســفية هــي حقــاً مشــاكل حقيقيــة وتحتــاج
إلى نظريــات فلسـفية معقـدة لحلهـا. مـن جهتهـا تتنبـأ السـوبر حداثـة بالحقيقـة التاليـة:
المشـاكل الفلسـفية هـي حقـا مشـاكل حقيقيـة لكـن حلهـا يتـم مـن خـلال إيضـاح
معـاني المفاهيـم. في الفقـرات التاليـة سـنطبق هـذا الاتجـاه السـوبر حـداثي عـى
فلسـفة العلـوم.
لا نســتطيع
هنــا ان نختــر فلســفة العلــوم. لكــن مــن الجديــر ذكــره هــو ان النــزاع
قائــم بـن المذهـب الواقعـي realismوالمذهـب اللاواقعـي antirealismاللذيـن
سـنعنى بشرحهـا وتقييمهـا، ولـن نغفـل عـن رسـم العلاقـة القائمـة بينهـا وبـن
نظريـة المعنـى
[1[ ـSee: Wittgenstein:
Tractatus Logico Philosophicus. Routledge. 1961
بالنسبة إلى
المذهب الواقعي، النظريات العلمية المعاصرة ناجحة لأنها صادقة.
مــن
أتبــاع هــذا المذهــب بتنــام (في كتاباتــه الأولى) وبويــد. أمــا الحجــة
العامــة لهــذا المذهــب فهــي التاليــة: إذا كانــت النظريــات العلميــة غــر
صادقــة رغــم انهــا ناجحــة في تفسـر الكـون والتنبـؤ بظواهـره، إذا فقـط مـن
خـلال معجـزة مـا قـد أصبحـت ناجحـة. لكـن المعجـزات غـر موجـودة. لـذا النظريـات
العلميـة الناجحـة هـي حقـا صادقـة[ .[1أمـا المذهـب
اللاواقعــي فرفــض تفســر نجــاح النظريــات العلميــة عــى هــذا النحــو بــل
يحــاول تفســر نجاحهــا بأســاليب اخــرى بالنســبة اليــه، النظريــات العلميــة
الناجحــة مقبولــة فقــط وليســت صادقـة ولا كاذبـة. مـن أتبـاع هـذا المذهـب
كـون وفـان فراسـن وغيـر. لـدى هـذا المذهـب حجــج عديــدة منهــا: النظريــات
العلميــة الناجحــة لا يمكــن ان تكــون صادقــة لانــه توجــد نظريـات علميـة
ناجحـة رغـم انهـا تناقـض بعضهـا بعضـا كنظريتـي النسـبية لأينشـتاين ونظريـةّ
ميكانيــكا الكــم[[2
يقـدم كـون
وفـان فراسـن وغيـر تفاسـر مختلفـة لحقيقـة ان النظريـات العلميـة ناجحـة. يعتــر كــون ان النظريــات العلميــة الأساســية كنظريتــي
نيوتــن وأينشــتاين هــي نمــاذج فكريــة ّ تختلــف في مــا بينهــا في تصــور
الكــون وتفســره مــا يجعــل التفاهــم بــن اتبــاع النظريــات المختلفـة
مسـتحيلا.ً فـا هـو صـادق ومـا يشـكل معرفـة بالنسـبة إلى نمـوذج علمـي معـن هــو
كاذب ولا يشــكل معرفــة بالنســبة إلى نمــوذج علمــي آخــر. يضيــف كــون: كل
نمــوذج َ علمـي يحـدد المشـاكلَ العلميـة كيفيـة حلهـا بحيـث يعتـر ان فقـط
المشـاكل التـي يسـتطيع حلهـا هـي حقـا علميـة. كـا ان كل نمـوذج علمـي يحـدد
الحقائـق العلميـة التـي لا بـد مـن تفســرها بحيــث يعتــر ان فقــط تلــك
الحقائــق التــي ينجــح في تفســرها هــي حقــا حقائــق علميـة وذات اهميـة.
وبذلـك تصبـح النظريـات العلميـة ناجحـة. بالنسـبة إلى كـون النظريـات العلميـة
ناجحـة لانهـا معيـار ذاتهـا. وبمـا ان النظريـات العلميـة تشـكل المناهـج التـي
لا بـد مـن الاعتـاد عليهـا مـن أجـل تقويـم النظريـات، فإنّـه مـن المسـتحيل
تقويـم النـاذج العلميـة مـن دون السـقوط في الدور (الدور هنا هو البرهنة على
القضية من خلال القضيـة ذاتها).وبذلـك يسـتنتج أن النظريـات العلميـة ليسـت صادقـة
ولا كاذبـة بـل هـي فقـط مقبولـة[[[
[1[ ـEditors: Boyd، Gasper، and Trout: Philosophy of Science. 1991. MTT. PP. 1416.ـ
[ [2ـ المرجع السابق. ص 322ـ.342
[3[ ـTomas Kuhn: Te Structure of Scientifc Revolutions.
Second Edition. Te University of Chicago
Press.. 1970.
Press.. 1970.
أمــا فــان
فراســن فيفــر نجــاح النظريــات العلميــة عــى النحــو التــالي: تولــد
النظريــاتّ العلميـة في غابـة مـن الـراع المميـت في مـا بينهـا وفقـط النظريـات
الناجحـة تبقـى، لـذا فـإن النظريـات المعـاصرة الناجحـة هـي علميّـة[ .[1أمـا غيـر
فيفـر نجاحهـا مـن خـلال قدراتنـا العقليــة. لدينــا قــدرات عقليــة تخولنــا ان
نتصــور العلاقــات المكانيــة وان نفكــر مــن خــلال البنيـات الهندسـية مـا
يسـمح لنـا ببنـاء نظريـات علميـة ناجحـة[[2
لكـن مـن
الممكـن الدفـاع عـن نظريـة أخـرى تقـول ان الخـلاف بـن المذهـب الواقعـي والمذهـب
اللاواقعـي هـو خـلاف هـش. فـلا يوجـد مـا نحتـاج إلى تفسـره. لقـد قـام الخـلاف
عــى تفســر نجــاح النظريــات العلميــة، لكــن نجاحهــا لا يحتــاج إلى تفســر
مختلــف عــن حقيقــة أن مفهــوم «النجــاح» لا معنــى لــه خــارج ســياق
العلــم. فالنجــاح مصطلــح يأخــذ ّ معنـاه في العلـم وفقـط في العلـم. لـذا فـإن
النظريـات العلميـة ناجحـة وبذلـك لا نحتـاج إلى تفسـر نجاحهـا مـن خـلال صدقهـا
أو مـن خـلال تفاسـر اخـرى. بـل النظريـات العلميـة هـي المعيــار للحكــم عــى
نجــاح أو فشــل النظريــات الأخــرى (اللاعلميــة أو الشــبيهة بالعلــم.) فمثـلا ّ نقـوم نظريـات علـم الاجتـاع مـن خـلال تشـابهها مـع
نظريـات العلـم؛ كلـا قام تشـابه أكـر كلـا حكمنـا عـى ان نجاحهـا أكـر. أمـا
الدليـل الأسـاسي عـى هـذه الفرضية فيـأتي من نظريـة الأوتـار. هـذه النظريـة
علميـة وتفـر كل الأشـياء في الكـون عـى أنهـا أوتـار بحيـث ان ذبذباتهـا أو
أنغامهـا المختلفـة تشـكل الأنـواع المختلفـة مـن الطاقـة والمـادة[[[، لكـن هـذه النظريــة تفتقــد للتنبــؤات كــا انــه لا توجــد
تجربــة مخريــة ترينــا صدقهــا. ومــع ذلــك تعــد نظريــة علميــة ناجحــة.
الآن، كيــف مــن الممكــن أن تُعــد هــذه النظريــة ناجحــة رغــم أنهــا غـر
مرهـن عليهـا مخريّـاً ّ ولا تـؤدي إلى أي تنبـؤات؟ عـى الأرجـح، التفسـر الأفضـل
هـو أنهـا ناجحـة لأن مفهـوم النجـاح ليـس لـه معنـى سـوى بارتباطـه بالنظريـات
العلميـة، ونظريـة الأوتـار نظريـة علميـة.
[1[ ـVan Fraassen: Te Scientifc Image. Oxford University Press. pp. 391980 .40.ـ
[2[ ـGiere: Explininig Science. Te University of Chicago Press. pp. 46 .ـP.136. 1988
[3[ ـStephen Hawking: Te Universe in a Nutshell. Bantam Books. 2001.
بالإضافــة
إلى ذلــك، نظريتنــا في المعنــى والدلالــة تحــدد مــا إذا كنــا مــن اتبــاع
المذهــب الواقعـي في العلـوم أم مـن اتبـاع المذهـب اللاواقعـي في العلـوم. فـإذا
قبلنـا بالمذهـب الواقعي في المعنـى والدلالـة سـنصل حتـاً إلى قبـول المذهـب
الواقعـي في العلـوم، امـا إذا ارتضينـا بالمذهـب اللاواقعـي في المعنـى والدلالـة
فسـوف نصبـح مـن أصحـاب المذهـب اللاواقعـي في العلـوم. مثـال ذلـك أننـا إذا
قلنـا ان المعنـى محـدد مـن قبـل العلاقـة السـببية بـن المفهـوم ٍ والـيء المشـار
اليـه في الواقـع، تصبـح حينئـذ مفاهيـم العلـم وجملـه مرتبطـة سـببيّاً بالاشـياء
والحقائـق القائمـة في الواقـع وبذلـك تغـدو النظريـات العلميـة الناجحـة صحيحـة
اي معتـرة عـن الواقـع الموضوعـي فنصـل إلى قبـول المذهـب الواقعـي في العلـوم.
هـذا مـا حـدث مـع بويـد[ .[1أمـا إذا اعترنـا ان
المعنـى محـدد مـن قبـل اسـتعال المفهـوم كـا يقـول كـون أو مـن قبــل الأفــكار
التــي نملكهــا إذا ســنصل لا محالــة إلى نتيجــة أن مفاهيــم العلــم وجملــه
غــر مرتبطــة بالعــالم الخارجــي وبذلــك تصبــح النظريــات الناجحــة للعلــم
مقبولــة فقــط وليســت صادقـة ولا كاذبـة. أي نصـل حتـا إلى المذهـب اللاواقعـي
في العلـوم كـا حـدث مع كـون[[2
لكــن مــن
جهــة أخــرى، مــن الممكــن أن نتجنــب المذهــب الواقعــي واللاواقعــي في
المعنــى والدلالــة وبذلــك نتجنــب قبــول المذهــب الواقعــي أو اللاواقعــي في
العلــوم. ويتــم ذلـك مـن خـلال قبـول نظريـة مختلفــة في المعنـى كالنظريــة
الداروينيـة التـي بالنسـبة إليهـا نجاحنـا في البقـاء عـى قيـد الحيـاة هـو الـذي
يحـدد المعنـى والدلالـة. مثـال ذلـك اذا كان مفهـوم «القـط» يعنـي أو يـدل عـى
نمـر بـدلا مـن ان يعنـي أو يـدل عـى قـط، وكنـا نعتقـد بـأن مفهـوم «القـط» يعنـي
قطّـاً بـدلاً مـن نمـر، إذا سـنترف عـى أسـاس انـه يوجـد قـط هنـا حـن نسـمع
احدهـم يقـول «يوجـد قـط هنـا» رغـم انـه يوجـد نمـر بقربنـا مـا يرجـح ان هـذا
النمـر سـوف يلتهمنـا (علـاً بأننـا إذا اعتقدنـا بـأن هـذا قـط وليـس نمـراً فلـن
نهـرب منـه.) مـن هنـا مفهـوم «قـط» يعنـي قطّـاً ولا يعنـي نمـراً لأننـا
ننجـح في البقـاء عـى قيـد الحياة.هنـا المعنـى غـر محلـل مـن قبـل العـالم
الخارجـي وغـر محلـل مـن قبـل أفكارنـا أو اسـتعمالنا للمفاهيـم وبذلـك نتجنـب
المذهـب الواقعـي واللاواقعـي في المعنـى والعلـوم.
[1[ ـRichard Body: “Confrmation Semantics، and the Interpretation of Scientifc Teories” in Te
Philosophy of Science. MIT Press. 1991
[2[ ـTomas Kuhn: “Dubbing and Redubbing: Te Vulnerability of Rigid Designation” in Scientifc
Teories. Editor: C. Wade Savage. University of Minnesota Press. 1990.
كما لا بــد
مــن تجنــب المذهــب الواقعــي واللاواقعــي في المعنــى والدلالــة لأنــه
يوجــد نقــد يرينــا فشــل كل منهــا. لنتفحــص الجملــة التاليــة: «الفوتــون
في حالــة تراكــب.» هــذهّ الجملــة صادقــة في ميكانيــكا الكــم. اذا تخيلنــا
فوتونــا أراد العبــور نحــو الشاشــة وأمامــه فتحتـان، فمـن المتوقـع ان يعـر
إمـا مـن الفتحـة الأولى وإمـا مـن الفتحـة الثانيـة. بالنسـبة إلىّ ميكانيـكا
الكـم لـن يعـر مـن الفتحـة الأولى ولـن يعـر مـن الفتحـة الثانيـة لكنـه سـوف
يعـرّ إلى الشاشـة بطريقـة لا نعـرف مـا هـي. هـذه هـي حالـة التراكـب التـي يعـر
عنهـا بمثـل قـط شرودنغــر الــذي هــو حــي وميــت في آن معــاً[ .[1رغــم ان جملــة
«الفوتــون في حالــة تراكــب» جملـة صادقـة علميّـاً مـا نـزال نجهـل مـا
تعنـي ومـا زال العلـاء يسـعون في تفسـرها. بمـا أننـا لا نعـرف مـا تعنـي إذا مـن
المسـتحيل ان تكـون أفكارنـا هـي التـي تحـدد معناهـا. ومـن المسـتحيل ان يكـون
اسـتعالنا يحـدد معناهـا لأن العلـاء يسـتعملونها بطـرق مختلفـة. منهـم
مـن
يسـتعملها عـى انهـا تعنـي وجـود عالمـن، في احدهـا يعـر الفوتـون مـن الفتحـة
الأولى وفي العـالم الثـاني يعـر الفوتـون مـن الفتحـة الثانيـة. ومنهـم مـن
يسـتعملها عـى أسـاس انهـا تعنـي ان وعـي العـالم هـو الـذي يحـدد مرورهـا العجيـب
نحـو الشاشـة إلى مـا هنالـك مـنّ تفســرات عــدة لميكانيــكا الكــم أو لحالــة
التراكــب. كــا انــه مــن الخطــإ القــول أن العــالم الخارجـي هـو الـذي يحـدد
معنـى تلـك الجملـة أو معنـى التراكـب لأنـه مـن المسـتحيل أن يكـون العـالم
الواقعـي في حالـة تراكـب كأن يعـر الفوتـون ولا يعـر في آن معنـا أو ان يكـون قـط
شرودنغـر حيّـاً وميتـاً ّ في الوقـت ذاتـه، ولـذا فـإن العلـاء يسـعون في
تفاسـرهم المختلفـة لمفهــوم التراكــب. وجدنــا إذا انــه مــن المســتحيل
تحليــل المعنــى أو تحديــده مــن خــلال أفكارنــا أو اســتعالنا للمفهــوم أو
مــن خــلال العلــم الخارجــي. لكــن جملــة «الفوتــون في حالـة تراكـب» أو
مفهـوم «التراكـب» لديـه معنـى بمـا أن العلـاء يسـعون في كشـف معنـاه مـن
خـلال تفاسيرهم
المختلفـة لميكانيـكا الكـم. مـن هنـا كل مـن المذهـب اللاواقعـي (الـذي يحلـل
المعنـى والدلالـة مـن خـلال الافـكار أو الاسـتعال) والمذهـب الواقعـي (الـذي
يحلـل المعنـى والدلالـة مـن خـلال العـالم الخارجـي) خاطـئ، وبذلـك لا بـد مـن
تجنبهـا.
[1[ ـRoger Penrose: Te Large. Te Small and the Human Mind. Cambridge University Press. 1997.
وبمـا ان
المذهـب الواقعـي في العلـوم يتضمـن المذهـب الواقعـي في المعنـى أو الدلالـة،
والمذهـب اللاواقعـي في العلـوم يتضمـن المذهـب اللاواقعـي في الدلالـة، وبمـا ان
كلا مـن المذهـب الواقعـي واللاواقعـي في الدلالـة خاطـئ، إذاً كل من المذهـب
الواقعـي واللاواقعي في العلـوم خاطـئ. وبذلـك لا بـد مـن تجنبهـا مـا يدفعنـا إلى
التمسـك بتفسـر نجـاح النظريات العلميـة مـن خـلال القـول بـأن مفهـوم النجـاح
ليـس لـه معنـى أو دلالـة خـارج نطـاق العلـم والقبـول بالوقـت نفسـه بـأن
النظريـات العلميـة قـد تكـون صادقـة كـا سـرى لاحقـاً. الآن، لابـد مـن الرهنـة
عـى المسـلمة الأولى في الرهـان أعـلاه: إذا كانـت النظريـات العلميـة ناجحـة
لأنهــا صادقــة، كــا يقــول المذهــب الواقعــي، إذا ســتدل مفاهيمهــا عــى
مدلولاتهــا بفضــل الوقائـع في العـالم (مـن اجـل ضـان صدقهـا) وبذلـك يصبـح
المذهـب الواقعـي في الدلالـة صادقـاً. أمـا إذا كانـت النظريـات العلميـة ليسـت
صادقـة ولا كاذبـة إذاً تكـون مفاهيمهـا غـر مرتبطـة بوقائـع العـالم وبذلـك يصبـح
المذهـب اللاواقعـي في الدلالـة صادقـاً.
لكـن يبقـى
السـؤال: هـل النظريـات العلميـة الناجحـة صادقـة؟ مـن الممكـن القـول أنهـا
صادقـة لأن مفهـوم الصـدق لا يكتسـب معنـاه سـوى في ميـدان العلـم؛ فخـارج العلـم
لامعنـى لـه. وهـذا بسـبب الحجـة التاليـة: إذا وجـدت فرضيتـان(أ) و(ب،) السـبيل
الأسـاسي لإظهـار صــدق (أ) في مواجهــة كــذب (ب) هــو مــن خــلال إظهــار أن
الفرضيــة (ب) ليســت علميــة بينـا الفرضيـة (أ) علميـة. فبمجـرد إثبـات أن (ب)
ليسـت علميـة بينـا(أ) علميـة نكـون قـد اعترنـا أن (ب) كاذبـة و(أ) صادقـة. مـن
هنـا مفهـوم الصـدق لا معنـى لـه خـارج العلـم. فمثـلا عندمـا نقـول ان هـذه
الفرضيـة او تلـك خرافيـة، نحـن حقـا نقـول أنهـا ليسـت علميـة وبذلـك نكـون قـد
اعتر ّ نـا أنهـا كاذبـة. مـن فـإن هنـا نفـي علميـة قـول مـا هـو متطابـق مـع
اعتبـاره كاذبـا مـا يعنـي أن إثبـات علميـة قـول مـا متطابـق مـع إثبـات صدقـه.
لا بـد مـن
أن نشـر إلى أن السـوبر حداثـة تسـعى إلى بنـاء نظريـات علميـة ناجحـة وصادقـة في
عــوالم ممكنــة. مــن هنــا، تقــول الســوبر حداثــة أن العلــم يُعــر عــن
الحقائــق كــا هــي في العـوالم الممكنـة التـي قـد يكـون مـن ضمنهـا عالمنـا
الواقعـي. بينـا تعتـر الحداثـة ان العلــم يعــر عــن الحقيقــة في عالمنــا
الواقعــي، تدعــي مــا بعــد الحداثــة ان العلــم لا يعــر عـن الحقيقـة بـل هـو
مجـرد أداة نافعـة في تفسـر الظواهـر والتنبـؤ بهـا[ [1امـا السـوبر حداثـة
فتتخطــى المذهبــن الســابقن اذ تقــول ان العلــم يعــر عــن الحقائــق
القائمــة في الأكــوان الممكنــة.
[ [1ـ أنظـر: تحريـر: اوليفـر ليـان: مسـتقبل الفلسـفة في القـرن الواحـد والعشريـن. ت: مصطفـى محمـود محمـد. مراجعـة: د. رمضـان
بسـطاويي. .4002عـالم المعرفـة. الكويـت. ص 551ـ.)651
ومــن
منطلــق ان المشــاكل الفلســفية مشــاكل حقيقيــة ويتــم حلهــا مــن خــلال
إيضــاح معــاني المفاهيــم أو كيفيــة اســتعالها نتمكــن مــن الإجابــة عــن
الســؤالن التاليــن: لمــاذا وكيــف تنجــح الفيزيــاء في التعبــر عــن العــالم
مــن خــلال معــادلات رياضيــة؟ ولمــاذا ينجــح الإدراك البــشري في ابقائنــا
عــى قيــد الحيــاة أو إيصالنــا إلى المعرفــة؟ النظريــات الفيزيائيــة ناجحــة
في التعبــر عــن العــالم مــن خــلال الرياضيــات لأن «النجــاح» لا معنــى لــه
خــارج ميــدان الرياضيــات؛ فالرياضيــات هــي المعيــار في الحكــم عــى
النجــاح أو الفشـل. وإدراكنـا للكـون ناجـح لأنـه لا معنـى للنجـاح خـارج
إدراكنـا، فـالإدراك البـشري هــو المعيــار في الحكــم عــى مــا هــو ناجــح
ومــا هــو فاشــل.
الممكن
والعقلاني
إذا كانــت
الحداثــة تتميــز بقبــول وجــود أســس وماهيــات، فــإن مــا بعــد الحداثــة
ترفــض وجودهـا[
.[1مـن المفـترض أن تكـون أسـس هـي المبـادئ التـي تبنـى عليهـا
المعرفـة بأشـكالها كافـة، وان تكـون الماهيـات هـي التـي تحـدد الأشـياء
والحقائـق. لكـن مـن الممكـن تخطـي الاتجاهـن السـابقن بقبـول السـوبر حداثـة
التـي هـي دراسـة للأسـس والماهيـات الممكنـة. تطالـب السـوبر حداثـة بخلـق الأسـس
والماهيـات من خـلال دراسـتها لأنهـا لا تعنـى بوجودها أو عـدم وجودهـا بـل
بدراسـتها كممكنـات. وإذا كانـت الحداثـة تملـك مضمونـا محـدداً، ومـا بعـد
الحداثـة تملـك مضمونـاً نقيضـاً للحداثـة، فـإن السـوبر حداثـة لا تملـك مضمونـا
محـددا لأنهـا تـدرس الممكنـات (بـل تكشـف فتخلـق الممكنـات) التـي تحتـوي مضامـن
مختلفـة. وبذلـك مضمـون السـوبر حداثـة يختلـف مـع اختـلاف الممكنـات. وإذا
كانت مـا بعـد الحداثة تتميـز بالكشـف عـن نهايـات الأشـياء كنهايـة الايديولوجيـا
والفـن والطبقـة الـخ[
،[2فـإن السـوبر حداثـة تركـز عـى بديـات
الاشـياء لانهـا تـدرس الممكنـات مـا قـد يدفعهـا نحـو أن تتحقـق.
[1[ ـSee: Freedric Hameson: Postmodernism. Verso. P.XII. 1991
[ [2ـ المرجع السابق. ص .1
ختاما كلمة في
العقلانية
تُعــرف
الحداثــة العقلانيــة ّ
rationalityعــى النحــو التــالي: أي نظــام اعتقــادي هــو نظــام عقــلاني
فقــط إذا لا يناقــض أو لا يخــرق مبــادئ المنطــق؟ فمثــلاً إذا وقعــت في
التناقـض الـذاتي أو الـدور فأنـت لا عقـلاني. امـا مـا بعـد الحداثـة فترفـع
النقـد التـالي في وجــه المفهــوم الحداثــوي للعقلانيــة، مثــلاً: مــن
الممكــن خــرق بعــض قوانــن المفهــوم الحداثـوي للعقلانيـة: مـن الممكـن خـرق
بعـض قوانـن المنطـق مـن قبـل فـرد مـا أو نظـام فكــري معــن ويبقــى مــع ذلــك
فــرداً أو نظامــاً فكريّــاً عقلانيّــاً. فالعديــد مــن المفكريــنِ الكبــار
وقعــوا في التناقــض أو الــدور، لكنهــم ظلــوا عقلانيــن. مــن هنــا تســتنتج
وفْق مـا بعـد الحداثـة بـأن مفهـوم العقلانيـة مفهـوم فـارغ بحيـث إنـه مـن
الخطـأ اعتبـار نظـام فكـري معـن عقلانيّـاً وآخـر لا عقلانيّـاً. وتنبثـق السـوبر
حداثـة معلنـة ان العقلانيـة قائمـة في التـالي: أي فـرد هـو عقـلاني إذاً وفقـط
إذا عـرف بـأن معتقداتـه تخـرق مبـادئ المنطـق مثــل انهــا تقــع في التناقــض أو
الــدور، فســوف يتخــى عــن معتقداتــه تلــك. وفقــط في حـال عـدم تخليـه عنهـا
يصبـح لا عقلانيّـاً. لهـذا المذهـب فضائلـه؛ فمـن جهـة يقـر بأنـه مـن الممكـن
للفـرد ان يخـرق مبـادئ المنطـق ويبقـى عقلانيّـاً في حـال أنـه لا يعـرف انـه قـد
ناقـض المنطـق، ومـن جهـة اخـرى يعـترف هـذا المذهـب بـأن عـى الفـرد أن يُراعـي
المنطــق وإلا أصبــح لا عقلانيّــاً في حــال انــه عــرف خرقــه للمنطــق وقبــل
بــه.
لا داعـي
للتذكــر بــأن مــا جــاء في هــذا البحــث هــو ممكــن فقــط. وبهــذا ينطرح
التســاؤل عما إذا أصبحنــا اليــوم في عــر الســوبر حداثــة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق