الأربعاء، 15 يناير 2025

عن ريتشارد فاينمان(16)

 

القسم الثاني


سنوات برينسيتون ! 

أناااااااااااااا

في أيام الأربعاء، كانت كلية الدراسات العليا بجامعة برينستون تستضيف متحدثين لإلقاء محاضرات. غالبًا ما كان المتحدثون مثيرين للاهتمام، وكنا نستمتع كثيرًا بالمناقشات التي تلي المحاضرات. على سبيل المثال، كان هناك طالب في مدرستنا معروف بموقفه المناهض بشدة للكاثوليكية، فكان يوزع أسئلة مُعدة مسبقًا ليطرحها الجمهور على متحدث ديني، مما جعلنا نُسبب للمتحدث وقتًا عصيبًا.

في مرة أخرى، ألقى أحدهم محاضرة عن الشعر. تحدث عن بنية القصيدة والعواطف المرتبطة بها، وقسّم كل شيء إلى أنواع وفئات محددة. أثناء المناقشة التي تلت المحاضرة، سأل المتحدث، "أليس هذا مشابهًا لما يحدث في الرياضيات، يا دكتور أيزنهارت؟"

كان الدكتور أيزنهارت، عميد كلية الدراسات العليا وأستاذًا بارزًا في الرياضيات، شخصًا ذكيًا للغاية. فقال: "أود أن أعرف رأي ديك فاينمان في هذا السياق بالنسبة للفيزياء النظرية". كان دائمًا يضعني في مثل هذه المواقف المحرجة.

ثمت واقفا وقلت: "نعم، هناك صلة وثيقة. في الفيزياء النظرية، يمكن اعتبار الكلمة مكافئة للصيغة الرياضية، وبنية القصيدة مكافئة للعلاقات المتبادلة بين الزخارف النظرية والزخارف كذا وكذا"—ثم تابعت الشرح، وقدمت تشبيهًا مثاليًا. رأيت عيني المتحدث تلمعان بالسعادة.

ثم أضفت: "ولكن يبدو لي أنه بغض النظر عما تقوله عن الشعر، يمكنني أن أبتكر تشبيهًا مع أي موضوع آخر، كما فعلت للتو مع الفيزياء النظرية. ومع ذلك، لا أرى أن مثل هذه التشابهات لها أي معنى حقيقي."

في قاعة الطعام الكبيرة ذات النوافذ الزجاجية الملونة، حيث كنا نتناول وجباتنا دائمًا مرتدين أثوابنا الأكاديمية التي كانت تزداد تهالكًا يومًا بعد يوم، كان العميد أيزنهارت يفتتح كل عشاء بتلاوة صلاة الشكر باللغة اللاتينية. وبعد انتهاء العشاء، كان كثيرًا ما ينهض لإعلان بعض الأخبار. في إحدى الأمسيات، نهض الدكتور أيزنهارت وقال: "بعد أسبوعين من الآن، سيأتي أستاذ في علم النفس لإلقاء محاضرة عن التنويم المغناطيسي. وقد رأى هذا الأستاذ أن تقديم عرض عملي للتنويم المغناطيسي سيكون أكثر إفادة من مجرد الحديث عنه. لذلك، يرغب في أن يتطوع بعض الأشخاص لتجربة التنويم المغناطيسي."

شعرت بحماس شديد: لا شك أنني يجب أن أتعرف على التنويم المغناطيسي. سيكون الأمر مذهلاً!

واصل العميد أيزنهارت حديثه قائلًا إنه سيكون من المفيد أن يتطوع ثلاثة أو أربعة أشخاص، حتى يتمكن المنوم المغناطيسي من تجربتهم أولاً لمعرفة من منهم يمكن تنويمه مغناطيسيًا، لذا فهو يشجعنا بشدة على التقدم لهذه التجربة. (يا إلهي، إنه يهدر كل هذا الوقت بلا داعٍ!)

كان أيزنهارت يقف في أحد أطراف القاعة، بينما كنت أجلس في الطرف الآخر، في الخلف تمامًا. كانت القاعة مليئة بمئات الأشخاص. كنت متأكدًا أن الجميع سيودون المشاركة، وكنت مرعوبًا من ألا يراني لأنه لن يلاحظني وسط هذا الجمع. كنت مصممًا على أن أكون جزءًا من هذا العرض التوضيحي بأي ثمن!

أخيرًا، قال أيزنهارت: "إذن، هل هناك أي متطوعين؟…"

رفعت يدي على الفور، ونهضت من مقعدي صارخًا بأعلى صوتي، لأتأكد أنه سيسمعني: "أنااااااااااا!"

سمعني جيدًا، لأنني كنت الصوت الوحيد في القاعة. تردد صدى صوتي في جميع أرجاء القاعة - وكان ذلك محرجًا للغاية. جاء رد فعل أيزنهارت على الفور: "نعم، بالطبع، كنت أعلم أنك ستتطوع، سيد فاينمان، لكنني كنت أتساءل فقط إن كان هناك شخص آخر؟"

في النهاية، تطوع عدد قليل من الرجال الآخرين. قبل أسبوع من العرض التوضيحي، جاء الأستاذ للتدرب علينا، ليتحقق مما إذا كان أي منا يصلح للتنويم المغناطيسي. كنت على دراية بالظاهرة نظريًا، لكنني لم أكن أعرف كيف يبدو الأمر عندما تكون تحت تأثير التنويم المغناطيسي.

ما وصلت إلى نقطة قال فيها: "لا يمكنك فتح عينيك."

فكرت في نفسي: "أنا متأكد من أنني أستطيع فتح عيني، لكنني لا أريد إفساد التجربة. لنرَ إلى أين يمكن أن تصل الأمور." كان الوضع ممتعًا للغاية: تشعر بشيء من الضبابية، وعلى الرغم من أنك فقدت قليلاً من التحكم، إلا أنك واثق تمامًا أنك قادر على فتح عينيك. لكنك، بالطبع، لا تفعل ذلك. لذا، بطريقة ما، يبدو وكأنك لا تستطيع.

جرب معي العديد من الأمور المختلفة، وفي النهاية قرر أنني كنت جيدًا جدًا.

عندما جاء وقت العرض الحقيقي، صعدنا إلى المسرح، وقام المنوّم المغناطيسي بتنويمنا أمام جميع الحاضرين في كلية الدراسات العليا بجامعة برينستون. هذه المرة كان التأثير أقوى؛ ربما لأنني تعلمت كيف أكون تحت تأثير التنويم المغناطيسي. نفذ المنوّم مجموعة من العروض التوضيحية، جعلني خلالها أقوم بأشياء لم أكن لأتمكن من فعلها في الظروف العادية. وفي النهاية، أعطاني تعليماته قائلاً إنه بعد خروجي من التنويم، بدلاً من العودة مباشرة إلى مقعدي بالطريقة الطبيعية، سأدور حول القاعة بالكامل وأعود إلى مقعدي من الخلف.

طوال العرض التوضيحي، كنت مدركًا بشكل غامض لما يجري، وكنت أتعاون مع كل ما يقوله المنوّم المغناطيسي. لكن هذه المرة قررت: "كفى! سأذهب مباشرة إلى مقعدي، ولن ألتزم بتلك التعليمات." عندما حان الوقت للنهوض ومغادرة المسرح، بدأت السير باتجاه مقعدي مباشرة. ولكن فجأة اجتاحني شعور غريب ومزعج: شعرت بعدم ارتياح شديد، وكأن شيئًا داخلي يرفض ما أفعله. لم أتمكن من الاستمرار على هذا النحو، فانتهى بي الأمر بالسير حول القاعة بالكامل كما قال المنوّم المغناطيسي.تعرضت للتنويم المغناطيسي في موقف آخر بعد فترة من الزمن بواسطة امرأة. أثناء تنويمي، قالت: "سأشعل عود ثقاب، وأطفئه، ثم ألمس ظهر يدك به على الفور. لن تشعر بأي ألم."

فكرت في نفسي، "هذا هراء!" أخذتْ عودًا وأشعلتْه، ثم أطفأتْه، ولمسته على ظهر يدي. شعرت بحرارة خفيفة. كانت عيناي مغلقتين طوال الوقت، لكنني كنت أفكر: "هذا سهل. هي أشعلت عودًا واحدًا، لكنها لمست يدي بعود آخر. لا شيء في هذا، إنها خدعة!"

عندما خرجت من التنويم المغناطيسي ونظرت إلى ظهر يدي، فوجئت بأكبر مفاجأة: كان هناك حرق على ظهر يدي. وسرعان ما تكوّن بثرة، ولم أشعر بأي ألم على الإطلاق، حتى عندما انفجرت.

لذلك، وجدت التنويم المغناطيسي تجربة مثيرة للاهتمام. طوال الوقت، كنت أقول في نفشس طوال الوقت: "أستطيع أن أفعل ذلك، لكنني لن أفعل" — وهذا في الحقيقة مجرد طريقة أخرى للقول بأنك لا تستطيع.




السابق                                التالي

عن ريتشارد فاينمان (15)

 

القسم الثاني


سنوات برينسيتون ! 

"أنت بالتأكيد تمزح يا سيد فاينمان!" (2)

كنا نرتدي ثياب التخرج كل ليلة أثناء تناول العشاء. في الليلة الأولى، أصابني ذلك برعب شديد، لأنني لم أكن أحب الأجواء الرسمية. لكنني سرعان ما اكتشفت أن هذه الثياب كانت ميزة رائعة. كان بإمكان الشباب الذين كانوا يلعبون التنس أن يسرعوا إلى غرفهم، يلتقطوا ثياب التخرج، ويرتدوها بسرعة. لم يكن هناك حاجة لتغيير ملابسهم أو الاستحمام. لذا، كانت الأذرع العارية والقمصان وكل شيء آخر تحت الثياب أمرًا مألوفًا. علاوة على ذلك، كانت هناك قاعدة غريبة: لا تنظف ثوبك أبدًا! بهذه الطريقة، يمكنك بسهولة معرفة الفرق بين طالب في السنة الأولى، وآخر في السنة الثانية، وآخر في السنة الثالثة... وآخر يشبه الخنزير! لم يكن يُسمح لك بتنظيف الثوب أو حتى إصلاحه، لذلك كان طلاب السنة الأولى يرتدون ثيابًا جميلة ونظيفة نسبيًا، أما في السنة الثالثة فكان الثوب يتحول إلى شيء يشبه الورق المقوى على الأكتاف، تتدلى منه قطع ممزقة.

لذا عندما وصلت إلى برينستون، حضرت حفل الشاي عصر يوم الأحد، ثم تناولت العشاء في ذلك المساء مرتديًا الثوب الأكاديمي في "الكلية". لكن صباح الاثنين، كان أول ما رغبت في فعله هو زيارة جهاز السيكلوترون.

عندما كنت طالبًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قاموا ببناء سيكلوترون جديد، وكان مذهلًا بحق! كان السيكلوترون نفسه موجودًا في غرفة، بينما كانت أدوات التحكم في غرفة منفصلة. التصميم كان رائعًا؛ الأسلاك ممتدة من غرفة التحكم إلى السيكلوترون عبر أنابيب، ولوحة التحكم كانت مليئة بالأزرار والعدادات. كان بالفعل ما يمكن أن أسميه "سيكلوترون مطلي بالذهب".

قرأت العديد من الأبحاث حول تجارب السيكلوترون، لكن لم يكن هناك الكثير منها من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ربما لأنهم كانوا في بداية العمل عليه. بالمقابل، كانت هناك نتائج كثيرة من أماكن مثل كورنيل، وبيركلي، وقبل كل شيء، برينستون. لذا، كان ما أردت رؤيته بشدة، وما كنت أتطلع إليه حقًا، هو سيكلوترون برينستون. لا بد أنه شيء مذهل.

إذن، أول شيء فعلته صباح يوم الاثنين هو الذهاب إلى مبنى الفيزياء وسؤالهم: "أين السيكلوترون؟ في أي مبنى؟"

إنه في الطابق السفلي، في القبو - في نهاية الممر."

في القبو؟ كان المبنى قديمًا، ولم أكن أعتقد أن هناك مساحة في القبو لجهاز سيكلوترون. مشيت إلى نهاية الممر، فتحت الباب، وفي غضون عشر ثوانٍ فقط، أدركت لماذا كانت برينستون هي المكان المناسب لي—أفضل مكان لإتمام دراستي. في تلك الغرفة، كانت الأسلاك متشابكة في كل مكان! المفاتيح تتدلى من الأسلاك، ومياه التبريد تقطر من الصمامات، والغرفة مليئة بالمعدات المبعثرة في العراء. الطاولات المكدسة بالأدوات كانت منتشرة في كل زاوية؛ كانت فوضى عارمة بكل معنى الكلمة. كان السيكلوترون بأكمله موجودًا في غرفة واحدة، وكانت الفوضى شاملة ومطلقة!

لقد ذكرني بمختبري في المنزل. لم يحدث أن ذكرني أي شيء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بمختبري في المنزل من قبل. وفجأة أدركت لماذا كانت برينستون تحقق نتائج مبهرة: لأنهم كانوا يعملون مباشرة مع الأداة. لقد قاموا ببنائها بأنفسهم؛ كانوا يعرفون مكان كل جزء فيها، ويفهمون تمامًا كيف تعمل، ولم يكن هناك مهندس خارجي مشارك—ربما باستثناء واحد كان يعمل معهم أيضًا. كان الجهاز أصغر بكثير من السيكلوترون الموجود في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، و"مطلي بالذهب"؟ بل كان العكس تمامًا! عندما احتاجوا إلى إصلاح الفراغ، كانوا يضعون عليه قطرات من مادة الجليبتال، لدرجة أن الأرضية كانت مليئة ببقعها. كان ذلك مذهلًا! لأنهم كانوا يعملون على الأداة بأنفسهم، ولم يكن عليهم الجلوس في غرفة منفصلة فقط للضغط على أزرار التحكم! (على فكرة، لقد حدث حريق في تلك الغرفة بسبب الفوضى العارمة التي كانت تعم المكان—عدد كبير جدًا من الأسلاك—مما أدى إلى تدمير السيكلوترون بالكامل. ولكن من الأفضل ألا أخوض في تفاصيل ذلك!)

(عندما وصلت إلى كورنيل، ذهبت لإلقاء نظرة على السيكلوترون الموجود هناك. لم يكن هذا السيكلوترون يتطلب غرفة بالكاد: فقد كان قطره لا يتجاوز ياردة واحدة، أي حجم الجهاز بالكامل. كان أصغر سيكلوترون في العالم، ومع ذلك حققوا نتائج مذهلة باستخدامه. كان لديهم مجموعة متنوعة من التقنيات والحيل المبتكرة. إذا أرادوا تعديل شيء ما في الأجزاء التي تُعرف بـ"الـ D's"—وهي نصف الدوائر على شكل حرف D التي تدور حولها الجسيمات—كانوا يستخدمون مفك براغي لإزالة هذه الأجزاء يدويًا، يصلحونها، ثم يعيدون تركيبها بسهولة. في برينستون، كان الأمر أكثر تعقيدًا بكثير، أما في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، فقد كان عليك استخدام رافعة متحركة على السقف، تخفض الخطافات، وتتعامل مع عملية مرهقة للغاية.)

لقد تعلمت الكثير من الأمور المختلفة من مدارس متعددة. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مكان رائع جدًا؛ ولا أحاول التقليل من شأنه. كنت مغرمًا به بشدة. لقد طور لنفسه روحًا خاصة، لدرجة أن كل شخص ينتمي إليه يشعر بأنه المكان الأكثر روعة في العالم—وكأنه مركز التطور العلمي والتكنولوجي في الولايات المتحدة، وربما في العالم بأسره. إنه أشبه بنظرة أحد ساكني نيويورك إلى نيويورك: يغفلون عن بقية البلاد. ورغم أنك قد لا تحصل هناك على شعور جيد بالتوازن أو النسبة، فإنك تكتسب إحساسًا قويًا بالانتماء، وتشعر بالدافع والرغبة في الاستمرار. تشعر وكأنك شخص مختار بعناية، ومحظوظ لأنك جزء من ذلك المكان.

كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مكانًا رائعًا، لكن هات سلاتر كان محقًا عندما نصحني بالذهاب إلى مدرسة أخرى لإكمال دراساتي العليا. وغالبًا ما أقدم النصيحة ذاتها لطلابي: تعرّفوا على بقية العالم. فالتنوع يستحق التجربة.

ذات مرة، أجريت تجربة في مختبر السيكلوترون بجامعة برينستون، وكانت نتائجها مذهلة. هناك مسألة في كتاب عن الديناميكا المائية كانت موضع نقاش بين جميع طلاب الفيزياء. المسألة كالتالي: لديك مرش حديقة على شكل حرف S    أنبوب مكوّن على شكل S مثبت على محور دوران—والماء يتدفق منه بزاوية قائمة على المحور، مما يجعله يدور في اتجاه محدد. الجميع يعرف الاتجاه الذي يدور فيه: يبتعد عن تدفق الماء الخارج. لكن السؤال هو: إذا كان لديك بحيرة أو حمام سباحة—مصدر كبير للماء—وقمت بوضع المرش تحت الماء بالكامل، وبدلًا من ضخ الماء للخارج، بدأت في امتصاصه للداخل، في أي اتجاه سيدور؟ هل سيدور بنفس الطريقة التي يدور بها عندما يضخ الماء في الهواء، أم أنه سيدور في الاتجاه المعاكس؟

الإجابة تبدو واضحة تمامًا للوهلة الأولى. المشكلة كانت أن بعض الأشخاص يعتقدون أنها واضحة تمامًا في اتجاه معين، بينما يرى آخرون أنها بنفس الوضوح ولكن في الاتجاه المعاكس. وهكذا، أصبح الجميع يناقشون الأمر بحماس. أتذكر أنه خلال إحدى الندوات أو جلسات الشاي، توجه أحدهم إلى البروفيسور جون ويلر John Wheeler وسأله: "في رأيك، في أي اتجاه تدور؟"

أجاب ويلر: "بالأمس، أقنعني فاينمان أنها تدور للخلف. واليوم، أقنعني بنفس المهارة أنها تدور في الاتجاه الآخر. لا أدري ما الذي سيقنعني به غدًا!"

سأقدم لك حجة تجعلك تظن أن الرشاش يتحرك في اتجاه معين، ثم حجة أخرى تجعلك تظن أنه يتحرك في الاتجاه المعاكس، حسنًا؟

الحجة الأولى تقول: عندما تمتص الماء، فإنك تسحب الماء باستخدام الفوهة، وبالتالي سيتحرك الرشاش إلى الأمام، باتجاه الماء الداخل.

ولكن يأتي شخص آخر ويقول: "لنفترض أننا أمسكنا الرشاش في مكانه وسألنا: ما نوع عزم الدوران المطلوب لإبقائه ثابتًا؟ في حالة خروج الماء، نعلم جميعًا أنه يجب الإمساك به عند الجانب الخارجي من المنحنى بسبب القوة الطاردة المركزية الناتجة عن دوران الماء حول المنحنى. الآن، إذا دار الماء حول نفس المنحنى ولكن في الاتجاه المعاكس، فإنه سيولد نفس القوة الطاردة المركزية باتجاه الخارج. وبالتالي، الحالتان متماثلتان، وسيدور الرشاش بنفس الاتجاه سواء كنت تضخ الماء إلى الخارج أو تمتصه."

بعد تفكير طويل، توصلت أخيرًا إلى الإجابة، وقررت إجراء تجربة لإثباتها.

في مختبر السيكلوترون بجامعة برينستون، كانت لديهم قارورة كبيرة جدًا – زجاجة ماء ضخمة. بدت لي مثالية لإجراء التجربة. أخذت قطعة من أنبوب نحاسي وقمت بثنيها على شكل حرف  S.  ثم قمت بحفر ثقب في منتصفها، وأدخلت قطعة من خرطوم مطاطي، ومررته عبر ثقب في سدادة فلينية وضعتها في أعلى الزجاجة.كانت السدادة تحتوي على ثقب آخر، أدخلت فيه قطعة أخرى من خرطوم مطاطي وربطتها بمصدر ضغط الهواء في المختبر. عند نفخ الهواء في الزجاجة، كنت أستطيع دفع الماء إلى داخل الأنبوب النحاسي وكأنني أمتصه.  الأنبوب على شكل حرف S لم يكن يدور حول نفسه، ولكنه كان يلتوي( بسبب مرونة الخرطوم المطاطي). خطتي كانت قياس سرعة تدفق الماء من خلال قياس المسافة التي يندفع بها الماء من أعلى الزجاجة.

أعددت كل شيء، وشغّلت مصدر الهواء، وفجأة صدر صوت "بوف!". ضغط الهواء دفع السدادة الفلينية خارج الزجاجة. قمت بتثبيتها بإحكام شديد حتى لا تخرج مجددًا. والآن كانت التجربة تسير بشكل جيد. الماء كان يتدفق، والخرطوم كان يلتوي، فقررت زيادة الضغط قليلاً لأن السرعة الأعلى تعني قياسات أكثر دقة. قمت بقياس الزاوية بدقة شديدة، ثم قست المسافة، وزدت الضغط مرة أخرى. وفجأة، انفجر كل شيء! الزجاج والماء تطايرا في جميع أنحاء المختبر. أحد الحاضرين الذين جاءوا لمشاهدة التجربة تبلل تمامًا واضطر إلى العودة للمنزل لتغيير ملابسه (وكان من حسن حظه أنه لم يُصب بجروح من الزجاج المتطاير). أما صور غرفة السحب التي أُخذت بعناية باستخدام السيكلوترون، فقد تعرضت كلها للتلف بسبب الماء. لكن بطريقة ما، كنت بعيدًا بما يكفي، أو ربما في زاوية محمية، فلم أتعرض سوى للقليل من الماء. لكن ما لن أنساه أبدًا هو الطريقة التي اقترب بها الأستاذ العظيم ديل ساسو، المسؤول عن مختبر السيكلوترون، وقال لي بصرامة: "تجارب الطلاب المستجدين يجب أن تُجرى في مختبر الطلاب المستجدين!"



السابق                                التالي

الثلاثاء، 14 يناير 2025

كيف نلعب الرياضيات؟

هذه التدوينة، عبارة عن ترجمتي "بتصرف" لمقال كتبته مارغريت ويرثايم

*******

 العالم مليء بأشياء تبدو عادية وبسيطة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها تعقيدات رياضية مذهلة. فما الذي يمكننا تعلمه  من هذه التعقيدات المخفية؟

ما ذا يعني أن "نفهم" الرياضيات؟ كون أن الرياضيات تُدرّس باستخدام كتب مدرسية تتطلب سنوات من التدريب لفهمها، قد نتصور أن أساس هذا الفهم هو الذكاء وإلا فلا، عادةً القيام بالرياضيات "العليا" يتطلب مهارة التعامل مع الرموز والإشارات، ولكن هنا تكمن مفارقة: قد لا تكون هذه الفرضية كافية. في الشعاب المرجانية الاستوائية تعيش أنواع من الرخويات تُعرف بـ"النوديبراش" (أو البزاقات البحرية)، وهي مخلوقات مزينة بثنيات تجسد الهندسة الزائدية، وهي نوع من الهندسة البديلة للهندسة الإقليدية التي نتعلمها في المدارس. هذا الشكل الهندسي ظل لقرون عديدة لغزاً حاولت العديد من العقول الرياضية العظيمة إثبات استحالته.

البزاقات البحرية والهندسة الزائدية: عبقرية الطبيعة

أعرف  جيدا أن كلمة "بزاقات"، غير جميلة لكن دعونا نتعامل معها رغم ذلك... المهم؛ البزاقات هي الرخويات العارية.

تتمتع البزاقات البحرية (النوديبراش) بعقول بدائية على الأقل، حيث تمتلك عادةً بضعة آلاف من الخلايا العصبية. هذه الخلايا العصبية الكبيرة الحجم جعلت البزاقات البحرية نموذجًا مهمًا للعلماء لدراسة الوظائف العصبية الأساسية. ومع ذلك، فإن هذا العدد الضئيل من الخلايا لا يكفي لتمكين البزاقة من تكوين أي تمثيل مجرد للرموز، ناهيك عن قدرتها على التعامل معها ذهنيًا. ومع ذلك، بطريقة ما، تجسد هذه المخلوقات في بنيتها الأساسية شكلًا هندسيًا لم يكتشفه علماء الرياضيات إلا في القرن التاسع عشر، وقد كاد أن يصيبهم هذا الاكتشاف بالجنون. في هذه الحالة، يبدو أن الأدمغة المعقدة كانت عقبة أمام الفهم.

يعود عشق الطبيعة للهندسة الزائدية إلى العصر السيلوري، قبل أكثر من 400 مليون سنة، عندما غطت الشعاب المرجانية الشاسعة قيعان المحيطات في الأرض المبكرة. العديد من أنواع المرجان، آنذاك وحتى اليوم، تظهر هياكل زائدية يمكننا التعرف عليها فورًا من خلال التموجات والثنيات التي تميز أشكالها. وعلى الرغم من أن المرجان من الحيوانات، إلا أن جهازه العصبي بسيط جدًا ولا يمكن وصفه بأنه يمتلك دماغًا. في الواقع، رأس المرجان عبارة عن كائن استعماري يتألف من آلاف البوليبات الفردية (تُسمى كذلك "السليلات" polype  ) التي تنمو معًا. وبصورة جماعية، تشكل هذه الكائنات نظامًا وعائيًا، وجهازًا تنفسيًا، وجهازًا هضميًا بدائيًا تتشارك من خلاله في التغذية والتنفس وتبادل المغذيات. لا وجود لأي شيء يشبه الدماغ، ومع ذلك يمكن للمستعمرة أن تنظم نفسها في هيئة سطح رياضي يتحدى مسلمة إقليدس بشأن الخطوط المتوازية. وهذه نقطة أخرى ضد مفهوم "الذكاء الأعلى".

اسأل أي تلميذ عن مجموع زوايا المثلث، سيجيبك على الفور: "180 درجة". لكن هذا غير صحيح على السطوح الزائدية. واسأله عن محيط الدائرة، سيرد: "2π  مضروبة في نصف القطر". لكن هذا أيضًا غير صحيح على السطوح الزائدية. معظم القواعد الهندسية التي ندرسها في المدرسة لا تنطبق على هذه السطوح، ولهذا السبب أصيب علماء رياضيات مثل كارل فريدريك غوص بالارتباك عندما واجهوا أخيرًا الصحة المنطقية لهذه الأشكال، وبالتالي وجودها الرياضي.
كان غوص قلقًا للغاية بشأن اكتشافاته حول الهندسة الزائدية لدرجة أنه لم ينشر أبحاثه في هذا الموضوع. في رسالة لصديق عام 1829، اعترف قائلًا: "أخشى صراخ البيوتيين[1] إذا أعلنت عن عملي". ولخيبة أمل الجميع، سرعان ما توصل علماء رياضيات آخرون إلى نفس النتيجة، وأُطلق العنان لجني الهندسة غير الإقليدية.

لكن هل يمكننا القول إن البزاقات البحرية والمرجان "تعرف" الهندسة الزائدية؟ أود أن أجادل هنا بأن هذه الكائنات تفهمها بطريقة ما. دون أي أدوات عقلانية أو قدرة على تشكيل تصورات ذهنية، أود أن أفترض أن هذه الكائنات المتواضعة هي علماء هندسة مهرة. ويقدم مثالها دلالات قوية لما يعنيه لنا نحن البشر أن "نفهم" الرياضيات، كما يطرح دلالات عميقة حول كيفية تدريس هذا المجال الشهير بغموضه.

هل الأشياء غير الواعية تُفكّر؟ تأملات فاينمان في الرياضيات والطبيعة

لست أول من تساءل عن القدرات الرياضية للكائنات أو الأشياء غير الواعية. قرب نهاية حياة ريتشاردفاينمان، يُقال إنه أصبح مفتونًا بسؤال حول ما إذا كانت الذرات "تفكر". قاده هذا التساؤل إلى التأمل فيما تفعله الإلكترونات أثناء دورانها حول نواة الذرة. في البدايات الأولى لعلم الذرة، صُوّرت الذرات كنظام شمسي صغير، تدور فيه الإلكترونات في مسارات بسيطة حول النوى، تمامًا كما تدور الكواكب حول الشمس. ولكن في عشرينيات القرن الماضي، أصبح واضحًا أن ما يحدث أكثر تعقيدًا من الناحية الرياضية. في الواقع، عندما يدور الإلكترون حول نواته، فإن الشكل الذي يرسمه يشبه سحابة متناثرة. السحب الإلكترونية الأكثر بساطة تكون كروية الشكل، في حين أن أشكالًا أخرى تكون مثل "الدمبل" haltère أو الحلقات الطورية (توروسية الشكل). يتم وصف شكل كل سحابة باستخدام ما يُعرف بمعادلة شرودنغر، التي تقدم خريطة توضح الأماكن الممكنة التي قد يوجد فيها الإلكترون في الفضاء.

الإلكترونات ومعادلات شرودنغر: هل بإمكان الجسيمات القيام بالحساب؟

معادلات شرودنغر (المسماة على اسم رائد نظرية الكم إروين شرودنغر وقطته الافتراضية الشهيرة) معقدة للغاية لدرجة أن أقوى الحواسيب الفائقة في زمن فاينمان بالكاد تمكنت من محاكاة أبسط المدارات الإلكترونية. هنا تساءل فاينمان: كيف يمكن لإلكترون بلا دماغ أن يقوم بما يقوم به بسهولة مطلقة؟ تساءل فاينمان ما إذا كان الإلكترون "يحسب" معادلة شرودنغر الخاصة به. لكن ما الذي قد يعنيه القول إن جسيمًا دون ذري يقوم بالحساب؟ الإلكترونات لا تتبع تعليمات رياضية بنفس الطريقة التي لا يتبع بها جيمي هندريكس النوتات الموسيقية المكتوبة. هناك شيء أعمق يحدث هنا، حيث تبدو هذه الجسيمات وكأنها تعبر عن الرياضيات في جوهر وجودها، بدلًا من "حسابها" بشكل واعٍ.

الرياضيات كأداء: كيف تجسد الطبيعة العلاقات الرياضية؟

العالم مليء بأشياء عادية، ووديعة، وغير واعية، لكنها تجسد ماديًا و بشكل مذهل، قطعًا رياضياتية معقدة . كيف يمكننا  إعطاء معنى لهذا؟  أود أن أقترح أن البزاقات البحرية، والإلكترونات، والعديد من الأنظمة الطبيعية المتواضعة الأخرى، تشارك فيما يمكننا أن نسميه "أداء الرياضيات". بدلاً من التفكير في الرياضيات، فإنها تمارسها. في أنسجتها الحية واستمرارية نموها ووجودها، تجسد هذه الكائنات علاقات رياضياتية، لتصبح رياضياتية بالممارسة. من خلال النظر إلى الطبيعة بهذه الطريقة، نجد أنفسنا نتأمل الرياضيات ليس من خلال عدستها التمثيلية التقليدية، بل كنوع من التفاعل. بدلاً من اعتبارها مجرد تجريد بعيد، يمكننا تصور الرياضيات كشيء أشبه بالموسيقى أو الرقص؛ نشاط يحدث ليس في التدوين فحسب، بل في التجسيد والممارسة.

الرياضيات كأداء: الموسيقى كنظير غنيّ.

تقدم لنا الموسيقى تشبيهًا غنيًا لفهم فكرة الرياضيات كأداء، لأنك لا تحتاج إلى أن تكون قادرًا على كتابة الموسيقى لتكون موسيقيًا. ربما تحتاج إلى ذلك إذا كنت تريد عزف مقطوعات موتسارت، ولكن ليس في العديد من الحالات الأخرى. معظم الموسيقى الشعبية عبر التاريخ تم إنشاؤها من قبل أشخاص يفتقرون إلى القدرة على قراءة الموسيقى بشكل رسمي. إلفيس بريسلي، مايكل جاكسون، إيريك كلابتون، وجيمي هندريكس جميعهم صرحوا بأنهم لا يقرؤون الموسيقى. وفي مقابلة تلفزيونية بريطانية، قال بول مكارتني: "طالما نحن الاثنين نعرف ما نفعله، أي أنا وجون، ونعرف الأوتار التي نعزفها ونتذكر اللحن، فنحن لا نحتاج في الواقع إلى كتابته أو قراءته".

الموسيقى الكلاسيكية الهندية، التي لا تقل تعقيدًا عن نظيرتها الغربية، تعتمد على "الراجات" التي كانت تُنقل شفويًا من الأستاذ إلى التلميذ، وليس تقليديًا عبر الكتابة. في هذه الممارسة التي تعود إلى آلاف السنين، تُعترف الموسيقى كشكل رياضي متأصل: الكلمة السنسكريتية "براستارا" prastara  تعني "دراسة الترتيب الرياضي" للراجات والإيقاعات في تكوينات مبهجة. يمكن بالطبع كتابة الراجات (في الواقع، يعود تاريخ التدوين الموسيقي الهندي إلى أكثر من 2000 عام)، ويمكن تدوين الرياضيات أيضًا، ولكن ليس بالضرورة.

هناك العديد من الأشياء التي "تمارس" الرياضيات دون نص صوري، ومن وجهة نظري، من غير المنطقي القول إن الإلكترونات أو الموجات الصوتية "تتبع تعليمات رياضية"، بنفس الطريقة التي لا يمكننا أن نقول فيها إن جيمي هندريكس كان يتبع نصًا موسيقيًا مكتوبًا. إمكانية كتابة الموسيقى هي شيء منفصل عن أدائها، ويمكن اعتبار الرياضيات بطريقة مشابهة. باختصار، التدوين ليس هو الفعل.

العروض الرياضية المفضلة: الهولوغرامات وتحويل فورييه

من بين مؤدي الرياضيات المفضلين لديّ الهولوغرامات، التي تنفذ عملية رائعة تُعرف باسم تحويل فورييه. هذه المعادلة الأنيقة والمعقدة بشكل مذهل تحمل اسم جوزيف فورييه، عالم الرياضيات والفيزياء الذي نصح نابليون واكتشف ما نسميه الآن تأثير البيت الزجاجي (وكان يُطلق عليه حينها "تأثير الصندوق الساخن"). وُصفت معادلة تحويل فورييه بأنها "أكثر قطعة رياضية فائدة على الإطلاق"، حيث تعتمد عليها كل مرة تجري فيها مكالمة هاتفية أو تستمع إلى موسيقى مسجلة رقميًا. كما أن تركيب الموسيقى الحديثة يعتمد على التطبيقات المبتكرة لمعادلات فورييه. سنصل إلى الجانب الصوتي قريبًا، لكن دعونا أولاً نلقي نظرة على الجانب البصري لهذا الإنجاز الرياضي المذهل.

تختلف الهولوغرامات عن الصور الفوتوغرافية بطرق أساسية: فالصورة الفوتوغرافية تلتقط عرضًا ثنائي الأبعاد للضوء والظل والألوان، أشبه بلوحة دقيقة للغاية؛ بينما عندما يمر الضوء عبر صفيحة هولوغرافية، فإنه يتجمع ليُشكل نسخة ثلاثية الأبعاد من الجسم الأصلي، معيدًا تكوين محاكاة ضوئية لهذا الجسم. الصورة التي تراها في الهولوغرام تكون نحتية، تشغل مساحة ثلاثية الأبعاد حقيقية، بحيث يمكنك التحرك حولها ومشاهدتها من زوايا مختلفة.

ومع ذلك، عندما تنظر إلى الصفيحة الهولوغرافية، لا ترى صورة واضحة، بل مجرد ضباب قد تستطيع أن تميز داخله حلقات وبقع مبعثرة. ما تم تسجيله على الصفيحة هو تحويل فورييه للجسم، الذي يُشفِّر معلومات أكثر ونوعًا مختلفًا تمامًا من المعلومات مقارنة بالصورة الفوتوغرافية.

كل جسم له تحويل فورييه، ومن الناحية النظرية، يمكننا حساب تحويل أي جسم نريده وإنشاء صفيحة هولوغرافية لتوليد شكله، حتى لو لم يكن الجسم الفعلي قد وُجد قط. المجال الناشئ للهولوغرامات المولدة بواسطة الكمبيوتر (CGH) يحاول فعل هذا بالضبط. وإذا تمكنا من جعله يعمل، فسيحدث ثورة في ألعاب الكمبيوتر والرسوم المتحركة؛ فسنتمكن من مشاهدة أفلام كاملة تشبه العرض الهولوغرافي الرائع للأميرة ليا في فيلم "حرب النجوم" الأصلي.

إن حساب التحويلات لأجسام معقدة يتطلب قدرات حوسبية ضخمة ومهارات لم يتمكن ممارسو CGH  البشر من تحقيقها بعد. ومع ذلك، فإن بعض المواد الكيميائية البسيطة التي تتفاعل مع الضوء على قطعة من الفيلم تتمكن من تنفيذ تحولات فورييه لمشاهد معقدة. تعمل أطياف الضوء والذرات معًا على تنفيذ عملية تشفير رياضية جميلة، وعندما يعيد الضوء المرور عبر الفيلم، فإنها تقوم بعملية فك التشفير. وهكذا، بينما تكون الصورة الفوتوغرافية تمثيلًا، فإن الهولوغرام عرض حي.

توصل فورييه إلى معادلته في أوائل القرن التاسع عشر، ليس لوصف الصور (فأصل الهولوغرامات يعود إلى الأربعينيات)، بل لوصف تدفق الحرارة، واتضح أن رياضياته تؤدي أيضًا إلى تطبيقات قوية جدًا في مجال الصوت. لماذا يبدو عمل موسيقي مثل موزارت مختلفًا عندما يُعزف على الناي أو الكمان؟ إحدى الطرق لتفسير ذلك هي أنه، على الرغم من أن كلا الآلتين تعزفان نفس التسلسل من النوتات، إلا أن تحويل فورييه للصوت الذي تنتجه كل آلة يختلف. يكشف التحويل عن الحمض النووي الصوتي the sonic DNA  للصوت المنتج من قبل الآلة، ويقدم وصفًا دقيقًا لمكوناته التوافقية (من الناحية الصورية، يصف مجموعة الموجات الجيبية النقية التي تشكل الصوت). باستخدام البرمجيات، يمكن لمهندسي الصوت تحليل تحويل التسجيل الموسيقي وإخبارك بنوع الآلة التي كانت تعزف؛ علاوة على ذلك، يمكنهم تعديل التحويل لإبراز الخصائص التي يحبونها وإزالة تلك التي لا يحبونها. من خلال التلاعب بالرياضيات، يمكن تشكيل الصوت ليتناسب مع الأذواق الشخصية.

حساب تحويلات فورييه للأصوات أسهل بكثير من حساب تحويلات المشاهد البصرية، وقد أنشأ مهندسو البرمجيات برامج لمحاكاة الآلات الموسيقية ( مثل Apple’sGarageBand)، مما يوفر للمستخدمين أوركسترا افتراضية على أجهزة الكمبيوتر المحمولة مقابل سعر تطبيقٍ ما. لقد أحدثت التقدمات في محاكاة الصوت المعتمدة على فورييه ثورة في الاقتصاديات الخاصة بصناعة الموسيقى، بما في ذلك تسجيلات الأفلام. الآن، لم تعد بحاجة إلى أوركسترا حقيقية لإنتاج أوتار مثيرة لمرافقة انتصار بطلة؛ يمكنك استحضارها من الأعماق الافتراضية، مولدة من خلال الرياضيات.

من وجهة نظري، يمكن القول أنه حتى الكراسي تشارك في الأداء الرياضي الذي يتم تنفيذه في قاعة الحفلات الموسيقية.

بينما تُظهر محاكاة الموسيقى كيف يمكننا استخدام الرياضيات لإنشاء شيء قوي من فراغ، هنا أنا مهتم أكثر بما يحدث في القاعات الموسيقية الفعلية. القاعات الكبيرة لها "صوت" خاص بها، مع كل غرفة تعمل كمرشح للموسيقى، تقوم بتعديل وتحسين تحويل فورييه لها. يستخدم مهندسو الصوت المعاصرون تقنيات فورييه عند تصميم القاعات الموسيقية الجديدة، حيث يتلاعبون في بنية المكان، على سبيل المثال من خلال إضافة حواجز في أماكن معينة، كل ذلك مدعومًا بالبرمجيات التي تحاكي كيف سيتفاعل الصوت داخل الفضاء. إذا قام المهندسون بعملهم بشكل جيد، لن توجد "نقاط ميتة" وسيغني المكان بالدفء والصدى. هنا نجد أداء رياضي بين الموجات الصوتية، والهندسة المعمارية، وأسطح الجدران.

بعض مدارس الموسيقى الآن لديها "غرف تمرين" إلكترونية حيث يمكنك من خلال البرمجيات أن تحدد محاكاة تعتمد على فورييه لكاتدرائية أو حظيرة معدنية، وتسمع كيف سيكون صوت عزفك في أماكن مختلفة. ومع ذلك، سيقول عشاق الموسيقى إن أي محاكاة لا يمكن أن تحل محل الواقع المادي، ولهذا السبب لن تحل البرمجيات محل القاعات الموسيقية الموقرة مثل "ميوزيكفيرين" في فيينا أو "كارنيجي" في نيويورك في المستقبل القريب. من المثير للاهتمام أن معظم القاعات الموسيقية التي تم تصنيفها على أنها الأفضل تم بناؤها قبل عام 1901، وهو ما عزاه أسطورة الصوتيات ليون برانك إلى افتقارها للهندسة المعمارية الفاخرة (شكلهما الصندوقي الواضح) والمقاعد المبطنّة قليلًا. من المنظور الذي أعتمده، يمكن القول أنه حتى الكراسي تشارك في الأداء الرياضي الذي يتم تنفيذه في القاعة.

منذ زمن الفيلسوفين فيثاغورس وأفلاطون، كان هناك الكثير من النقاش في الفلسفة الغربية حول كيف يمكننا فهم حقيقة أن العديد من الأنظمة الفيزيائية لها تمثيلات رياضية: الترتيبات المقسمة في دوار الشمس، وأقماع الصنوبر، والأناناس (أعداد فيبوناتشي)؛ منحنى الأصدافالحلزونية، وأنياب الفيلة، وقرون الأغنام (اللولب اللوغاريتمي)؛ الموسيقى (النسب التوافقية وتحويلات فورييه)؛ الذرات، والنجوم، والمجرات، التي جميعها الآن لها أوصاف رياضية قوية؛ حتى الكون ككل، الذي يتم تمثيله الآن بمعادلات النسبية العامة. وقد وصف الفيزيائي يوجين فيغنر هذه الحقيقة المدهشة بـ "الفعالية غير المعقولة للرياضيات". لماذا يظهر العالم الحقيقي الرياضيات على الإطلاق؟ ولماذا كل هذا الكم من الرياضيات؟ حتى الأجزاء الغامضة من الرياضيات، مثل الجبر المجرد وأجزاء غامضة من الطوبولوجيا، غالبًا ما تجد تجسدها في الطبيعة.

لا يزال معظم الفيزيائيين يشرحون هذه الظاهرة من خلال نوع من الأفلاطونية الفلسفية، التي في شكلها الأقدم تقول إن الكون مكون من علاقات رياضية تسبق العالم المادي. بالنسبة للأفلاطونيين، المادة هي حرفيًا مُشَكَّلة وموجهة من مجموعة من المثل الرياضية التي سبق وجودها.

في الرؤية الأفلاطونية، يتم اعتبار المادة (المادة التي هي أساس كل شيء) خاملة، خالية من القوة، وتخضع للقوانين الرياضية الأثيرية. تُمنح هذه القوانين الأولوية الوجودية، حيث تصبح المادة في الواقع جانبًا ثانويًا بالنسبة للـ "الواقع الحقيقي" الذي تمثله المعادلات. على مدار نصف القرن الماضي، تم تحديث هذه الرؤية إلى حد ما، حيث أُدرجت المادة أو الجسيمات تحت الذرية في المعادلات نفسها. تم استبدال المادة بالحقول – كما في الحقول الكهربائية والمغناطيسية – وأصبحت هي الحقول التي تتبع القوانين. ومع ذلك، تبقى القوانين هي التي تحتفظ بالأولوية والقوة؛ ومن هنا ينبع الهوس بإيجاد "نظرية كل شيء".

لقد كانت الأفلاطونية تشكل مصدر إزعاج لي كفلسفة جزئيًا لأنها تمثل شكلاً خفيًا من الدين - حيث تحل الرياضيات محل الله كمصدر للقوة المتعالية والمُسبقة – لذا إذا أردنا أن نطرح بديلاً، نحتاج إلى طرق جديدة في تفسير الرياضيات نفسها لا تقع أيضًا في فخّ الأطر الدينية. التفكير في الرياضيات كأداء يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو المستقبل، في الوقت الذي يقدم فيه نموذجًا قويًا للتعليم.

تقوم الشعاب المرجانية وقواقع البحر ببناء أسطح زائدية، ومن المدهش أن البشر يمكنهم أيضًا صنع هذه الأشكال باستخدام الأعمال اليدوية المتكررة مثل الحياكة والكروشيه – يمكنك عمل الهندسة غير الإقليدية بيديك. لصنع هيكل زائدي بالكروشيه، يكفي أن تزيد الغرز بشكل منتظم باتباع خوارزمية بسيطة: "اصنع n غرزة، ثم زد واحدة، كرر إلى ما لا نهاية". من خلال زيادة الغرز، تزيد مقدار المساحة الزائدية بطريقة منتظمة، مما يحركك بصريًا من سطح مسطح أو مستوى إقليدي إلى تشكيل متموج يمثل "السطح الزائدي". من الناحية الرياضية، يُعتبر السطح الزائدي هو المعاكس الهندسي للكرة: حيث ينحني سطح الكرة باتجاه نفسها عند كل نقطة، ينحني السطح الزائدي مبتعدا عن نفسه. يمكننا تعريف هذه الأسطح المختلفة من حيث تقوسها: السطح الإقليدي له تقوس صفر (أي أنه مسطح في كل مكان)، والكرة لها تقوس إيجابي، بينما السطح الزائدي له تقوس سلبي. من هذه الناحية، يمكن اعتباره الشبيه الهندسي للعدد السالب.

تمامًا كما أن العلاقات الهندسية على الكرة تختلف عن تلك الموجودة على سطح مستوٍ – فكّر في ما تعرفه عن سطح الأرض مقارنةً بورقة مسطحة – فهي تختلف مرة أخرى على السطح الزائدي. ففي المستوي المسطح، يبلغ مجموع زوايا مثلث 180 درجة، بينما على سطح الكرة ، يتجاوز 180 درجة، أما على السطح الزائدي، فإن أقل من 180 درجة. من الصعب فهم هذا بشكل مجرد عندما تتعلمه من الكتب الدراسية، كما فعلت في الجامعة، لكن يمكنك إثباته بشكل مادي على سطح زائدي محاك بالكروشيه من خلال خياطة مثلثات على السطح. يمكنك أيضًا إثبات بصريًا أن الخطوط المتوازية تتباعد، وغيرها من المفارقات الظاهرة. لو كان غاوس يعرف العمل  بالكروشيه، ربما ما كان ليصاب بهذا الجنون.


حاجز المرجان بالكروشيه من تأليف مارغريت وكريستينويرثايم ومعهد فيغورينغ

استغرق الأمر امرأة، وهي الرياضية دينا تايمينا من جامعة كورنيل، لاكتشاف الكروشيه الزائدي وتقديم نموذج ملموس لهذا الشكل للرياضيين. لقد قمت بإجراء ورش عمل حول هذا الموضوع مع نساء من جميع أنحاء العالم، مستمتعة بكيفية نقل الكثير من الهندسة من خلال أعمال الحرف اليدوية. وهناك أيضًا ارتباط هنا بنظرية النسبية العامة، لأن اكتشاف السطح الزائدي فتح عصرًا جديدًا تمامًا في التفكير الهندسي، مما أدى في النهاية إلى الهندسة الريمانية العامة التي يمكنها وصف أي سطح منحنٍ معقد، وهي الرياضيات التي تقف وراء معادلات ألبرت أينشتاين للكون.

من خلال الأعمال اليدوية، يمكننا تقديم مفاهيم حول الزمكان المنحني والأنصاف / المانيفولدات المتعدّدة الأبعاد ، مع قيادة أصابعنا، وصولًا إلى أسئلة حول قياس هيكل الكل الكوني. يمكننا اعتبار هذا نوعًا من "الذكاء الرقمي"، ومن الجدير بالذكر أن الأعمال اليدوية المتكررة (الحياكة، الكروشيه، النسيج) كانت هي التقنيات الرقمية الأصلية: أنماطها الخوارزمية مكتوبة حرفيًا في هيئة شيفرة. ليس من قبيل الصدفة أن بطاقات الكمبيوتر المثقبة استُمدت من البطاقات المستخدمة في المحاكك الآلية. هنا، يظهر الفهم من خلال الأيدي التي تؤدي الرياضيات: إنها نوع من "الحساب المجسد".

يتحدث الناس عن عزف الموسيقي، لكن الرياضيات يمكن أن تكون أيضًا شكلًا من أشكال العزف. إحدى  طرق التفكير في الرياضيات هي اعتبارها لغة الأنماط والأشكال، فعندما تلعب مع الأنماط، فإنك تقوم بالرياضيات. من أجمل الأمثلة على "لعب الأنماط الرياضية" يمكن رؤيته في أعمال الفنانين الإسلاميين الذين زينوا المساجد والقلاع مثل قصر الحمراء في غرناطة بإسبانيا بأرضيات فسيفسائية معقدة، لا تزال تعقيداتها الرياضية مصدرًا للدهشة.

قبل وقت طويل من اكتشاف علماء الهندسة الأوروبيين أنه يوجد فقط 17 تكسية[2] رياضية مختلفة للمستوي– أي طرق مختلفة لملء مساحة بنمط تكسية منتظم – كان الفسيفسائيون في العصور الوسطى الذين يعملون بأيديهم باستخدام طريقة "الحسبة" يعرفون عن هذه الأنماط جميعها. علاوة على ذلك، اكتشف فنانو الفسيفساء الإسلاميون في العصور الوسطى أيضًا "التكسية اللادورية"، وهي طريقة لملء سطح حيث لا يتكرر النمط أبدًا. اكتشف علماء الرياضيات الغربيون هذه التكسية فقط في ستينيات القرن الماضي، بعد قرون من الافتراضات التي كانت ترى أن مثل هذه الأنماط مستحيلة. واحدة من الخصائص السحرية للتكسية اللادورية هي أنها تبدو عشوائية ومنتظمة في آن واحد؛ فهي شكل هندسي من الفوضى، فهي تعتمد على القواعد ومع ذلك هي غير قابلة للتنبؤ بطبيعتها.

ضريح الشاعر حافظ الشيرازي في مدينة شيراز، إيران

عندما اكتشف علماء الرياضيات الغربيون، ومن بينهم السير روجر بنروز Roger Penrose ، أشكال التبليط غير الدوري لأول مرة، اعتُبرت هذه التكوينات مجرد فضول رياضي؛ فكما هو الحال مع الأسطح الزائدية، بدت وكأنها تتحدى الفهم السليم، ولم يتخيل أحد أن مثل هذه الأمور يمكن أن توجد في العالم المادي. كانت التحيزات شديدة لدرجة أنه عندما أعلن الكيميائي دان شختمان Dan Shechtman ، عام 1982 أنه ابتكر نوعًا جديدًا من البلورات ذات هيكل غير دوري، قوبل بالكثير من الشكوك ورفض العديد من العلماء تصديق ادعاءاته. (وكحال كارل غاوس، تأخر شختمن أيضًا في نشر اكتشافه بسبب الطبيعة التي بدت عبثية أو غير قابلة للتصديق لمزاعمه). لقد أحدثت بلورات شختمن شبه الدورية تحولًا جذريًا في علم البلورات، على الأقل لأننا أصبحنا نعلم الآن أن البلورات يمكن أن تكون فوضوية، تجمع بين النظام وعدم التكرار في الوقت نفسه.

تبليط غير دوري(مصدر الصورة)

كان لويس كارول سيستمتع كثيرًا بهذا المفهوم، الذي يذكرنا بنصيحة الملكة الحمراء لأليس بأن الإنسان، مع قليل من التدريب، يمكنه "تصديق ستة أشياء مستحيلة قبل فطور الصباح". وفي عام 2009، وبعد بحث مكثف، تم العثور على مثال طبيعي لبلورة غير دورية في معدن يُعرف باسم الإيكوساهيدريت icosahedriteإنها الضربة الثالثة لفكرة أن الذكاء شرط أساسي لممارسة الرياضيات!


النموذج الذري لشبه البلورة Ag-Al. (مصدر الصورة)

وكمسك ختام لهذه القصة، حصل شختمان في عام 2011 على جائزة نوبل في الكيمياء.

دليل آخر على أن دراسة المعادلات ليست الطريق الوحيد لاكتساب البصيرة الرياضياتية يأتي من إفريقيا، حيث اكتشف الحرفيون الأنماط الكسيرية (الفراكتالية) منذ قرون. تظهر الكثير من هذه الأنماط في مجموعة متنوعة من المنسوجات الإفريقية، تسريحات الشعر، الأعمال المعدنية، النحت، الرسم، والعمارة. ومن الأمثلة الرائعة على ذلك، قرية با-إيلا في جنوب زامبيا، التي صُممت وفق تصميم كسيري يذكرنا بمجموعة ماندلبرو الشهيرة، أيقونة التصاميم الحاسوبية الرائجة في التسعينيات.

في كتابه "الكسيريات الإفريقية: الحوسبة الحديثة والتصميمالتقليدي" (1999)، يتتبع عالم الرياضيات رون إيغلش Ron Eglash قصة الريادة الإفريقية في فرع من الهندسة الذي دخل وعي العالم الغربي فقط في مطلع القرن العشرين، ولم يزدهر فعليًا هناك إلا مع تطور رقائق الرسومات الحاسوبية.

نموذج كسيري لقرية با-إيلا. مأخوذ من  كتاب رون إيغلش. (حيث يبرز التصميم المعماري الذي يعتمد على أنماط هندسية متكررة تعكس مبدأ الكسيرية، حيث تتكرر التفاصيل على مستويات مختلفة، بدءًا من التخطيط العام للقرية وصولًا إلى تصميم المباني الفردية.)

الرخويات البحرية تمارس الرياضيات، الإلكترونات تمارس الرياضيات، المعادن تمارس الرياضيات. وحتى قوس قزح يقدم عرضًا رياضياتيا مذهلاً إذا أخذنا في الاعتبار القوسين الأساسي والثانوي، والفراغ المظلم بينهما، والأقواس الحمراء والخضراء تحت القوس الأساسي. في المرة القادمة التي ترى فيها قوس قزح واضحًا، توقف وتأمل المساحة المحيطة به؛ هناك الكثير مما يحدث، ولا يمكن للبصريات الهندسية التقليدية أن تلتقط هذا التعقيد بالكامل. قطعة مدهشة أخرى من الأداء الرياضياتي تقدمها الصقور الجوالة أثناء انقضاضها على فريستها؛ حيث تبقي رأسها ثابتًا لتثبت عينها على الفريسة بزاوية 40 درجة، وتندفع بسرعة 200 ميل في الساعة في مسار يشكل لولبا لوغاريتميًا مثاليًا. هنا، يظهر تطبيق عملي لصيغة أويلر الشهيرة من القرن الثامن عشر، بتفردها الرياضياتي، يتجسد من خلال طيران الطيور.

الرياضيات تُمارَس من حولنا في الطبيعة، ويمكننا نحن أيضًا أن ننضم إلى هذا المرح. ليست الرياضيات بحاجة لأن تُدرَّس كموضوع مجرد؛ يمكن أن تُقدَّم كمهارة حيوية تشبه تعلم آلة موسيقية. هذا لا يعني التقليل من أهمية ما يحدث في قاعات الجامعات أو الكتب الأكاديمية؛ فالمجتمع بحاجة إلى علماء رياضيات محترفين يمكنهم التعامل مع الرموز، مثل فورييه وبيرنهارد ريمان، الذين طوروا رياضيات تساعدنا على إجراء المكالمات الهاتفية، وفهم بنية الكون، والعديد من التطبيقات الأخرى. ولأن الطبيعة تمارس الرياضيات بوفرة، ربما لن يأتي وقت تصبح فيه "الترميز الرياضياتي" عديم الفائدة. في عام 2016، مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء عن "اكتشافات نظرية حول التحولات الطوبولوجية في المادة" – عمل مذهل ومعقد ينبثق من اكتشاف جسم آخر كان يُعتبر مستحيلاً (شبه الجسيم)، والذي قد يمهد الطريق للحواسيب الكمومية من خلال رؤى رياضياتية جديدة.

عند التفكير في الرياضيات كأداء أو عرض، فإننا نحررها من القيد الضيق للتجريد الذي حُبست فيه لفترة طويلة. إذا سألت علماء الرياضيات المحترفين عما يحبونه في عملهم، فالإجابة المحتملة ستكون "جمالها". وكما قالت الشاعرة إدنا سانت فنسنت ميلاي EdnaSt Vincent Millay عام 1923: "كان إقليدس وحده من يرى الجمال عاريًا"، بينما ادعى عالم الرياضيات أندريه فايل (شقيق سيمون) أن حل مشكلة رياضية صعبة يفوق في متعته اللذة الجنسية.

المحترفون يعلمون أن الرياضيات تنبض بالحياة؛ فهم يستمتعون بلعبها، ومرونة أشكالها، وحتى بالعبثيات التي تفاجئهم بعد تجاوز الصدمة الأولى. الأسطح الزائدية، التبليطات غير الدورية، شرائط موبيوس Möbius strips ، الأعداد السالبة، والصفر، كلها أثارت الدهشة والخوف في البداية، لكنها في النهاية فتحت أبوابًا لعوالم جديدة من العجائب الرياضية.

لا يتطلب الأمر أن تكون خبيرًا في الرموز لتقدّر هذا العالم. تمامًا كما نولد بقدرة فطرية على الرقص والعزف (حتى لو أن التعليم أحيانًا يخنق هذه القدرات)، لدينا أيضًا ميل طبيعي لتشكيل الأنماط واللعب بها. الرخويات البحرية، الموجات الصوتية، والصقور تمارس الرياضيات؛ وكذلك صانعو الفسيفساء الإسلامية والمهندسون المعماريون الأفارقة. وأنت أيضًا تستطيع ذلك.

---------------------------------------------

[1].  بيوتيا: منطقة في وسط اليونان، تحدها أتيكا من الجنوب الشرقي، وخليج إيوبويا من الشرق، وفثيوتيس من الشمال، وفوكيس من الغرب، وخليج كورنث من الجنوب، أما "البيوتي" فهو ساكن هذه المنطقة.. أصبح "بيوتي" يُطلق على كل ثقيل الفهم ضعيف الذكاء... فقد  وجه القدماء انتقادات أكثر جدية للثيبيين (سكان ثيفا في بيوتيا)، حيث وصفوهم بأنهم أناس لا يحترمون القانون، وقالوا إن القوة كانت تهيمن على حياتهم.

وبفخرهم بقوة أجسادهم، كانوا يعتقدون أنهم أفضل من بقية الإغريق. تحدث ديموستين عن غبائهم المتغطرس، وقارنهم بمواطنيه قائلاً إنهم أكثر غروراً بسياساتهم القاسية والظالمة من اعتزاز الأثينيين بإنسانيتهم وعدالتهم. ومع ذلك، فإن البيوتيين لا يستحقون جميع الاتهامات التي كان السكان الأثينيون الأذكياء يلقونها على جيرانهم.

[2]. التكسية هي التبليط بالفسيفساء.


بحث في المدونة